5-3 التوجيهات العملية والبرامج العلمية لتنمية المحاجة

13-  تجنب إصدار أحكام ذات طابع تعميمي مفرط لا تقوم إلا علي ما يقع في إطار خبرتك المباشرة (ذات الطابع المحدود وغير الممثل لخبرات الذين تتعامل معهم والذي يفترض تعرضهم لخبرات مختلفة أيضاً) للتدليل علي صحة ما تدعي كأن تقول لإثبات صحة اتباع أسلوب الضرب في المدارس لتحسين التعليم أنني أعرف أسر من جيراني المتفوقين يضربون أبنائهم، أو أنني ضربت وأنا صغير لذا فأنا متفوق، فمثل هذه الأحكام الجزافية تقلل من مصداقيتك وتعطي انطباعات سلبية عنك لدي الأخرين.

14-  تقبل احتمال صحة بعض ما يقال ضدك، فهذا من باب النقد المباح، والذي يعد البوابة الملكية لتطوير نفسك من خلال تلافي تلك العيوب، وحاول أن تشعر الأخر أن أحكامك قابلة للمراجعة حتى يقبل علي التحاور معك. وتذكر أن شعور الأخر أنك الفقر سيجعله يمتنع عن ذلك إن كان حريصا علي عدم فقدانك، ومن ثم ستخسر النصيحة الأمينة والعين الثانية التي تري عيوبك حتى تتجنبها، وفي المقابل فإنه إن كان غير حريص علي علاقته بك سيعتمد إشهار هذا السلاح وإغماده في نفسيتك حتى يكدر عليك صفو حياتك بل قد يميل إلي تصيد أغلاطك حتى يستغلها ضدك فيما بعد.

15-  قياس الإحراج (الخيار صفر): من أبرز ممارسات السوفسطائيين ما يطلق عليه قياس الإحراج حيث يطرح الفرد بديليين كلاهما مكروه وضد مصلحة الطرف الآخر، وعليه أن يختار أحدهما، وبالتالي فالخيار كأنه صفراً. ومن أشهر الوقائع الدالة على ذلك ما حدث بين "بروتاجوراس" وأحد تلاميذه حيث اتفق معه على أن يعلمه فن الجدل (السفسطة) ليصبح مؤهلاً للاشتغال بالمحاماة على أن يدفع له نصف الأجر مقدماً والنصف الآخر بعد أن يتم تعليمه، وعلامة ذلك أن يكسب التلميذ أول قضية يترافع فيها أمام المحكمة، وبطبيعة الحال لا يدفع مؤخر الأتعاب إذا خسر أول قضية، وبعد أن تعلم التلميذ لم يشأ أن يقبل أي قضية تأتيه ليترافع فيها ضارباً عرض الحائط بإلحاح أستاذه للذهاب للمحكمة حتى يدفع القسط المؤجل. فما كان من بروتاجوراس إلا أن يقاضيه أمام المحكمة

- حيث قال للقاضي: إذا خسر التلميذ هذه القضية وجب عليه دفع القسط بمقتضى حكم المحكمة، وإذا كسبها وجب عليه الدفع بمقتضى الاتفاق المبرم بيننا.

- وكان رد التلميذ: إذا كسبت القضية فسوف لا أدفع القسط المؤجل بموجب حكم المحكمة، وإذا خسرتها – وهي أول قضية أترافع فيها – فسوف لا أدفع القسط بمقتضى الشرط المبرم بيننا (مهران، 1994، 289). ومن الوقائع المعبرة عن هذا النمط من القياس أيضاً أن القاضي أبا يوسف رفض قبول شهادة كبير وزراء الرشيد الفضل بن الربيع في قضية مطروحة أمامه، فاستدعاه الرشيد وسأله عن سبب رفضه قبول شهادة كبير وزرائه، فأجاب القاضي أبو يوسف: إني سمعته يوماً يقول لك: أنا عبدك. فإن كان صادقاً فلا تقبل شهادة العبد، وإن كان كاذباً فكذلك (القاضي، 2001، 26). ويعبر "أوبوليد" عن مثال آخر لهذا النمط من المغالطات بقوله: إذا قال إنسان إني أكذب فإذا كان يكذب بالفعل فهو صادق، وإذا كان ما يقول صادقاً فهو يكذب إذن، وبالتالي ليس صادقاً (روبيير بلانش، 2003، 339)، أو تلك الأم الأثينية التي قالت لولدها: إذا قلت الصدق كرهك الناس، وإذا كذبت كرهتك الآلهة. فرد عليها أبنها قائلا: بل أني إذا قلت الصدق أرضيت الآلهة، وإذا قلت الكذب أرضيت الناس (العبد، 1978: 59، 92).

وحري بالذكر أن حياتنا اليومية تمتلئ بمواقف يضعنا فيها الآخرون في مثل ذلك المأزق كأن يقول لك صديق اقرضني بعض المال فإن رفضت فأنت لست صديقي، وإن أقرضته ضاع مالك الذي أنت في أمس الحاجة إليه؛ لذا عليك باقتراح بديل ثالث قد يكون إبداعيا مثلما فعل أحد دهاة العرب حين قال له أحد المقترضين: لي عندك مسألتان الأولي أن تقرضني ألف دينار والثانية أن تمهلني سنة فقال له: سأقضي لك إحداهما فقط وهي الثانية وسأمهلك سنتان.

16-  طالب الآخر حين يعرض عليك حججا معينة لإقناعك بموقفه بتفصيل ما أجمل وبيان الأدلة التي يستند إليها، والتأكد من التطابق بين التواريخ والأشخاص، وتسلسل الأحداث، وعدم تناقضها مع الواقع (أين سينا، 1966م)، فعلي سبيل المثال حين يسعى أحدهم لإقناعك بالانضمام إلي جمعية من جمعيات المجتمع المدني عليك أولا مطالبته بعرض أهدافها بوضوح، وأنشطتها المعاصرة ومدي ومشروعيتها،وهوية القائمين عليها، ومصادر تمويلها، وهل ثمة تعارض بين نظامها الأساسي ونشاطها الفعلي، وهكذا وحين يسعى أحدهم لإقناعك بدور أشخاص معينين في نشأة الحركة الوطنية المصرية أنتبه للتسلسل التاريخي للأحداث ومدي مطابقة الأسماء التي يطرحها للحقب الزمنية التي يذكرها فلا يمكن مثلا أن يأتى بدور الزعيم سعد زغلول قبل دور الزعيم مصطفي كامل.