(1-1) تعريف المحاجة:

 

تعريف المحاجة (Argumentation)

كما أنه من منطق الأشياء أن نتعرف على من نتعامل معه قبل أن نشرع في توثيق علاقتنا به، كذلك فإن لفظ "المحاجة" في حاجة الى تعريف إجرائي قبيل تقديـم بيانات مفصلة عنه، وفي هذا الصدد حري بنا الإشارة إلى أنه أمكن، في ضوء ما تم الإطلاع عليه من تعريفات مختلفة لباحثين متعدديـن، استخلاص التعريف التالي والذي يشير إلى أن المحاجة تعني "قدرة الفرد على تفنيـد ودحض حجج الطرف الآخر بالأدلة والبراهين الاستدلالية، والواقعية، وحثه على التخلي عنها، والدفاع في الوقت نفسه عن آرائه، وتقديم حجج لإقناع الطرف الآخر بها، وذلك حين يتحاجون حول قضية خلافية" (شوقي، 2003).

 

ينطوي هذا التعريف على أن المحاجة تتضمن عمليتين رئيسيتين هما:

-   التفنيد Refutation وهي عملية يتم بموجبها إثبات أن صحة حجج الطرف الآخر أو النتيجة المترتبة عليها، أو المستمدة منها، زائفة أو خاطئة، أو ذات قيمة مشكوك فيها (Verderber,1991:332)

-         الإقنـاع Persuation  من خلال الاستعانة بمجموعة من الحجج التي يستدل منها الفرد على صحة دعواه 0

وحري بالذكر أن هناك بعض المفاهيم المتداخلة مع مفهوم المحاجة من قبيل الجدل، ويفضل الباحث في هذا السياق استخدام لفظ المحاجة على الرغم مـن عــدم شيوعه على لفظ الجدل، رغم ذيوعه، لأن مفهوم الجدل ارتبط تاريخيـا ولغويا بمدلولات تعمل على نشأة تصورات سلبية عنه في أذهان الناس، فعلـى سبيل المثال من بين التعريفات اللغوية للجدل أنه "شدة الخصومة" وأن المجادلة تكون إذا غاب التعاون بين المتحاورين في إظهار الصواب (ابن منظور، 1980). ويعرف في مصادر أخرى بأنه "علم يقتدر به على حفظ أي وضع يراد، ولو باطلا، وهــدم أي وضع يراد ولو حقا" (العلواني، 1987: 22-32).


(1-2) دواعي الاهتمام بالمحاجة:

جدير بالذكر أن ظاهرة المحاجة أصبحت تنال اهتماما علميـا ملحوظـا فـي الحقبة المعاصرة من باحثين في تخصصات مختلفة بدءاً من علماء النفس، وانتهاءاً بعلماء البلاغة، ومرورا بعلماء القانون، والسياسة والإعلام، والإدارة، والدين وذلك لأسباب عديدة منها:

‌أ-   تمكن المحاجة الفرد من التعبير عن ذاته والدفاع عن وجهات نظــره الشخصية: ذلك أن الناس ينخرطون، بمعدلات متفاوتة، في حياتهم اليومية في عمليات محاجة حول قضايا متنوعة تتعلــق بحالـة المجتمـع وشئونه المصيرية من قبيل: وضع المــرأة، والأقليـات، والسياسات الاقتصادية والاجتماعية فضلا عن المسائل والأمور الشخصية، وتمكنهم المحاجة من التعبير عن وجهات نظرهم، وتعديلها، على نحو يجعلها أكثر وضوحا واتساقا، وفهم الأمور بصورة أفضل مما ييسر عليهم اتخاذ قرارات أكثر دقة حولها، وهي عملية أساسية في الديموقراطيات المعاصرة التي يعد الدخول فــي مناظرات حول تلك الأمور من ملامحها البارزة (Mcpeck,1990:7-9).

 

 ‌ب- تعد المحاجة وسيلة للتعلم واكتساب المعارف: فالفرد من خلال المحاجــة يتعلم من الطرف الآخر معلومات جديدة حول جوانب نوعيـة من القضايـا المطروحة فهو يعرف المزيد من الاعتراضات على وجهة نظـره، والأدلـة التي تدعم الوجهة البديلة، ويتعلم كيـف يكـون حججـا جديـدة باسـتخدام المعلومات المتاحة من كل الأطراف الأخرى (Bonaito&Fasulo,1997).

 

 

 

 ‌ج- هناك مؤشرات عديدة تشير إلى أن القدرة المرتفعة على المحاجـة ترتبـط إيجابيا بالصحة النفسية للفرد ورضاه عن ذاته وتبنيه مفهوما إيجابيا لـها، وقدرته على التأثير في الآخرين ومقاومة عمليات فرض الهيمنة عليه مـن قبلهم (Rancer et al., 1997)، وإذا حاولنا فهم ديناميات تلك النتائج سنجد أنه من شأن اشتراك الفرد في محاجات متكررة مع آخرين، وحصوله علـى بعض المزايا في أعقابها، أن يزيد من ثقته بنفسـه مـن جهـة، وأن يغريـه بالدخول في محاجات أخرى جديدة من جهة أخرى مما يعني ضمنا، وخاصة فى حالة نجاحه فيها، مزيد من التقدير الإيجابي لقدراته وبالتالي لذاته.

 ‌د- إن الدخول في محاجات متنوعة ينمي مهارات المحاجة لدى الفرد، ويجعلها أكثر قوة، وينشط جهاز المناعة الحجاجية لديه حيث يسعى لتفنيد الحجج المضادة، وإنتاج حجج جديدة لإقناع الآخرين بموقفه فضلا عن أنها تعلمه تحمل الاختلاف، وتجنب تصعيده، وفي الجهة المقابلة فإن تحاشى التعرض لتلك المواقف الحجاجية، يؤدي إلى ضعف تلك المهارات، وبالتالي استبعاد فرصة أن يتعلم الفرد من خلالها كيف يتحدث في صميم المشكلات التي يهتم بها، ويتناقش حولها، ويكتسب مهارة الوصول إلى حلول لها (فيشر وبرون،1991: 39) وهو أمر غير مطلوب بالطبع.

 

 ‌هـ - تبدأ المحاجة عادة حين يكون هناك اختلاف وتعارض بين وجهات نظر لأطراف متعددة حول مسألة معينة، وتستمر حتى تنتهي، ومن هنا يمكن القول بأن المحاجة آلية لحل الصراعات (Johnson & Roloff, 1998)، وفض النزاعات، وإزالة سوء التفاهم المتبادل بين الأطراف المختلفة، وانطلاقاً من هذا التصور يشير "شولتز"Shultz  إلى أن الأفراد الأكثر قدرة على المحاجة يسهمون بقدر كبير في حل المشكلات داخل الجماعة (Rancer et al.,1997) اعتمادا على عمليات من قبيل إقناع الآخرين بأدلة الفرد، وتفنيد دعاواهم ضده، وفي المقابل فإن الفرد الذي قد يفشل في إدراك واستخدام المحاجة كوسيلة لحل الصراع قد يلجأ إلى طرق أخرى أقل تحضراً كأن يعتدي على الطرف الآخر، أو يهينه مما يعقد الموقف (Johnson & Roloff, 1998).

 ‌و- إن عملية المحاجة بما تنطوي عليه من تدريب على المنطق والاستدلال تقوى الروح النقدية بين الناس، وبالتالي تقلل من احتمال أن تضللهم الاستدلالات الزائفة التي يتعرضون لها بلا انقطاع في أنحاء شتى من العالم (تارسكى،1970: 31-32) كذلك فإنه من شأن الكشف عن مستوى المهارات الحجاجية للفرد الإسهام في تخطيط وتصميم برامج تنمية مهاراته الحجاجية من خلال التركيز على مهارات بعينها، والتى تعد الأكثر احتياجا للتنمية من غيرها فى المجالات العملية المتنوعة، ومن شأنه أيضا أن يحدد خط الأساس لمستوى المهارات الحجاجية للفرد قبيل عمليات التدريب حتى نتمكن من رصد آثاره بشكل دقيق، ويساعدنا أيضا فى القيام بالبحوث الارتقائية للوقوف على طبيعة التغيرات فى تلك المهارات عبر العمر.


(1-3) نبذة تاريخية عن المحاجة وتطور الاهتمام بدراستها:

 

إعمالاً لمبدأ التراكمية في العلم فإنه يمكن تصنيف الجهود السابقة المتاحة فى هذا المضمار فى الفئات التالية:

         ‌أ- إسهامات الفلاسفة اليونانيين:

حين نفحص تلك الجهود سنجد أن الفلاسفة اليونانيين وعلى رأسهم سقراط وتلميذه أفلاطون ومن بعده أرسطو، فضلا عن بعض الفلاسفة السوفسطائيين مثل بروتاجوراس وهيبياس، قد قدموا بعض الأساليب الحجاجية الماهرة التى اشتهروا بها، وأصبحت من بين المكونات المحورية في عمليات الحجاج من بعدهم، من قبيل: الأسئلة السقراطية المؤدية لتوليد المزيد من المعاني وإظهار تناقض الآخر، وطرح مقدمات ومسلمات واستخلاص نتائج تلزم عنها لتفنيد رأى الطرف الآخر (أفلاطون، 1966)، والمغالطات المنطقية والتى برع فيها السوفسطائيون حتى أن "هيبياس" الصغير كان يفخر بأنه يدافع أمام القضاء فى آن واحد عن عشر قضايا، يجيب عن كل الاعتراضات عليها ثم ينتقل إلى صف الخصوم لقاء أجور أخرى فيدافع عن القضايا العشر المناقضة، ويجيب عن كل الاعتراضات عليها (الفندى، 1982: 8)

 

‌ب-  إسهامات علماء الحضارة الإسلامية:

حين ننتقل إلى الحضارة الإسلامية سنجد كتابات متنوعة لفلاسفة وعلماء مبرزين إبان فترة ازدهار تلك الحضارة تشكل ارهاصات لاهتمامات معاصرة فى مجال المحاجة شملت الجوانب التالية:

 

  • مهارات المحاجة: اقترح ابن سينا فى هذا المقام عددا من المهارات النوعية للمحاجة منها: تقسيم الدعوى، أو الحجة، إلى عناصر فرعية، والرد على كل منها منفردا، وطلب إما تفصيل المجمل أو توضيح الغامض، ومراجعة المسلمات إما لاكتشاف التكرار أو التناقض، وإما للتأكد من صحتها أو تسلسلها أو تطابق الروايات (ابن سينا، 1966: 72)، ويضيف الشيرازي والدبوسى عنصراً آخر مثل: دحض الحجة إما بالمطالبة بالدليل، والتنازع فى معناه على أي وجه يفهم، وإما بالتنازع فى المدى الزمني لإبراز التعارض، والتمييز بين علة الحكم وحكمته، والمنازعة فى العلة، ودفع الآخر إلى الاستغراق فى النفى، وتقديم التفسيرات ونقل الخلاف إليه (الدبوسي، ب.ت: 112-4118؛ الشيرازي، 1988).

  • آداب وضوابط التحاجى: مثل أن يقصد المحاج الحق لا مجرد الغلبة، وأن يبتعد عن الخلط والمغالطة، والتقليد أو التعصب، وتجنب مناظرة المعاند، والجاهل، وطلب الغلبة لذاتها (الجليند، 1986: 125-128).

  • الكشف عن أخطاء الاستدلال والقياس أثناء المحاجة: من قبيل قلب القياس بجعل العلة معلولا، واعتماد إثارة انفعالات السامعين بدلا من الاستنباط، وتعظيم الأمر أو تهوينه، والاستناد عند الاستنتاج إلى الشيوع والآلفة والهالة (ابن سينا، 966: 180).

 ‌ج-  إسهامات علماء الحقبة الحديثة والمعاصرة:

شملت تلك الإسهامات جوانب متنوعة منها:

 اكتشاف مكونات وأبعاد المحاجة: إما من خلال تحليل محتوى كتابات كما فعل "انطاكى ولودار" بتحليل مضمون سلسلة من المحادثات الجدلية (40) بين مجموعة من الأفراد بعضهم يعرف أنه يتم تسجيلها والبعض الآخر لا يعرفون (1992,Antaki & Leuder)، وتم التوصل كذلك إلى العديد من المبادئ الحجاجية التى كان يستخدمها "البرت نورث هوايتهيد Albert North Hewaithide" من خلال تحليل محاوراته، والتى من بينها: التأكد من دقة التعليقات، وأوجه الشبه بين الأشياء، والفصل بين الاعتقاد والواقع، وعدم خلط الأمور العامة بالشخصية، وإمطار الآخر بالمزيد من الأسئلة والاستفسارات، وتبين من خلال تحليل محتوى محاورات "يرتراند رسل Bertrand Russel" أن من أهم السلوكيات الحجاجية التى كان يمارسها: تحديد الملامح الدقيقة للسياق الذى يستخدم فيه المفهوم، وذكر وقائع تناقض النتيجة التى توصل إليها الطرف الآخر، وإعادة تعريف المفاهيم بما يخدم القضية التى تبناها (Russel, 1979).

 

- كشف المغالطات وأخطاء القياس في الاستدلال: المغالطة هي أن يؤتى بما يشبه برهانا وهو ليس كذلك مثل أخذ ما بالعرض مكان ما بالذات، كمثل من رأى إنسانا أبيض يكتب فيظن أن كل كاتب كذلك (العبد، 1978: 98)، ومن أشكال المغالطات تقديم تقسيمات غير شاملة، أو تجاهل المطلوب. والمغالطات قد تكون فى الدليل (عدم كفاية الأمثلة، ووجود حلول أخرى)، أو فى الاستدلال (الهجوم على حجة الطرف الآخر بدون معلومات كافية، والانصياع لأثر الهالة(*)، والتسرع بإثبات علاقة سببية بين ظاهرتين لمجرد تعاقبهما زمنيا) أو فى اللغة (الغموض واستخدام كلمات ذات معاني متعددة) (Cronbeck et al., 1995, 413)، وبجانب ذلك هناك العديد من أخطاء القياس والاستدلال من قبيل الاحتكام إلى خبرة زائفة، والتعميم المفرط، والتحيز الشخصي، والتأثر بالأغلبية، أو بالإتاحة، أو بانطباعات طرف عن آخر (سولسو، 1996: 654 - 659)، أو قول أشياء غير متعلقة بالموضوع، أو يشوبها الغموض، أو أكثر أو أقل من المطلوب (Hilton, 1990) أو ليس لدى الفرد عليها دليلا كافيا (Nofsinger, 1991: 37).

 

- الوقوف على طبيعة الدور الذى تمارسه بعض المتغيرات فى تشكيل مستوى مهارات المحاجة سواء كانت متغيرات حيوية أو معرفية أو سلوكية أو تتعلق بطبيعة الاتجاه نحو المحاجة، وكيفية استثمار ذلك فى تصميم برامج لتنمية مهارات المحاجة.

 

- بناء برامج لتنمية مهارات المحاجة لفئات متنوعة وبوجه خاص الطلاب، ومن هم فى حاجة لمستوى مناسب من تلك المهارات من الفئات الأخرى ومن طليعة الباحثين فى هذا المجال "انفنت Enfinite، ورانسر Ransser، وهيلتون Hilton".  

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* أثر الهالة (Halo Effect) هو تأثر الحكم على مجموعة من الاحداث بالانطباع الذى يتركه احداها فى النفس.