مع أن المحاجة بوصفها ظاهرة نفسية تتبادل التأثير مع ماعداها من ظواهر يبدأ إلا أننا سنركز فى هذا المقام على الكشف عن طبيعة المتغيرات التى تؤثر فيها وتسهم فى تحديد مستواها والتى يطلق عليها محددات المحاجة.وتتمثل أهمية تلك المتغيرات فى أن إدراك وتقييم دورها يمكننا من تحديد أسباب انخفاض أو ارتفاع مهارات المحاجة لدى الفرد، ومن ثم يتسنى لنا توظيف تلك المعرفة فى بناء برامج تنمية مهارات المحاجة من خلال استبعاد أو تقليص تأثير الفئة الأولى من تلك المتغيرات من جهة، وتعظيم تأثير الفئة الثانية من المتغيرات من الجهة الأخرى.

وجدير بالذكر أن تلك المحددات تنتظم فى أربع فئات سنعرض لها بشيء من التفصيل على النحو التالى:-

 

(4-1) متغيرات حيوية:

وتشمل هذه المتغيرات (الديموجرافية) كل من عمر الفرد وتعليمه ونوعه وسنناقش فيما يلي دور كل منها على حدة.

 

 

1- العمر

يمارس العمر أثاراَ متنوعة على مهارات المحاجة يمكن إيجازها فى النقاط التالية:-

 

- نمو القدرة على توليد الحجج عبر العمر:- حيث أشارت نتائج البحوث العديدة إلى وجود علاقة إيجابية دالة بين العمر ومتوسط عدد الحجج التى يصدرها الفرد إبان مناقشة موضوعات خلافية مع الآخرين، وفى أحد البحوث التى أجراها الباحث كان متوسط عدد الحجج التى أصدرها طلاب الإعدادي 11.3 والثانوي 13.3 والجامعة 17.2 حجة.

 

 

 

 

صقل المهارات الحجاجية الإيجابية:- حيث أنه يحدث تحسن فى بعض المهارات الحجاجية الفعالة عبر العمر ويزيد معدل استخدامها فى المحاجة مما يعد ملمحا ارتقائيا من قبيل إعادة تأطير القضية والتى تنطوى على إعادة تعريف المسألة المطروحة للمحاجة بصورة جديدة تخدم أهداف الفرد وعدم الانسياق أو الاعتماد على الاستخدام الذى يفرضه الطرف الأخر عليه، وكذا ارتفاع مهارات التعامل مع جانبي المسألة المطروحة والتى تعكس قدرة الفرد على إدراك الحجج المؤيدة والمعارضة فى ذات الوقت، والموازنة بينهما مما يزيد من سعة أفقه وموضوعيته إبان المحاجة، وكذلك يميل الفرد إلى استخدام مهارة "التجذير" بدرجة أكبر والتى تعنى البحث فى أصل المسألة والإمساك بالعوامل المحورية فيها، وكذلك يصبح الفرد أكثر عقلانية، وواقعية، وأقل ميلا لإطلاق تعميمات مفرطة.

- انحسار بعض السلوكيات الحجاجية السلبية:- من الملاحظ أنه كلما أرتفع عمر الفرد تناقص ميله لاستخدام بعض السلوكيات الحجاجية ذات الطابع السلبي من قبيل النظرة الجزئية للأمور، والتى ينشغل بموجبها الفرج بالجزئيات الجانبية فى الموضوع عن العناصر الرئيسية منه، والاستغراق فى التفاصيل الفرعية الهامشية وإغفال الإطار العام المحوري مما يقلل احتمال وصوله إلى نتائج صحيحة، وكذلك يتناقص معدل الأسلوب المتمركز حول الذات،وهو ما يعنى اهتماماً أكبر من الفرد بإدراك منظور الطرف الأخر مما ينشئ بيئة مواتية للتفاهم المتبادل، وكذلك يتناقص الميل إصدار أحكام أفعال متطرفة قاطعة متصلبة ذات طابع عدائي مما يقلل إمكانية تحول المحاجة إلى موقف صراع.

2 - مستوى تعليم الفرد

يعكس مستوى التعليم، إلى حد ما، مستوى القدرات المعرفية والمهارية للفرد على أساس أن الوصول إلى مستويات تعليمية عالية يعنى ضمنا تحلي الفرد بمستوى مرتفع نسبيا من القدرة فضلا عن أن اجتياز مراحل تعليمية أعلى يتضمن تزويد الفرد بمزيد من المعارف والمهارات التى تسهم فى تشكيل عقليته وأسلوب تفكيره ونمط شخصيته، ومن المتوقع فى ظل هذا التصور، وهو ما وجدته البحوث بالفعل، أن النمط الحجاجى للفرد يسير فى وجهة ارتقائية عبر المراحل التعليمية المتعاقبة، الإعدادي والثانوي والجامعة، يمتد على عدة محاور قوامها المزيد من المرونة الحجاجية، وطرح المزيد من الأسئلة المحورية حول الموضوع،وإدراك التناقضات وأوجه التعارض بين عناصر المسألة، والتعمق فى دراسة القضية المطروحة للحجاج، والنظر بموضوعية لحجج الطرف الأخر ومحاولة توظيفها، والاهتمام بإقناع الطرف الأخر بآرائه وحججه بدرجة أكبر من مجرد تفنيد ما طرحه من حجج. ويظهر دور التعليم فى تحسن المهارات الحجاجية أيضا فى أنه يسمح للفرد بالتعرض للعديد من الحجج ووجهات النظر المتعارضة سواء على أيدى معلميه أو زملائه أو أقرانه وهو ما يجعله أكثر قدرة على تحمل الاختلاف، واكثر حنكة فى إدارته تأسيا بتلك النماذج الإيجابية التى تقع فى نطاق خبرته المباشرة أو غير المباشرة، فضلا عن أن الفرد الأكثر تعليما يتوقع منه أن يمارس نمطا حجاجيا أكثر عقلانية وحكمة اتساقا مع تصورات أفراد المجتمع المحيط الإيجابية حوله. ولا يفوتنا فى هذا المقام أن ننوه إلى أن دور التعليم فى التأثير إيجابيا فى مهارات المحاجة يمكن أن يزداد بصورة جوهرية إذا ما روعي في فلسفة بناء المقررات والأنشطة التربوية تدريب الطالب بشكل مقصود على مهارات المحاجة سواء بصورة مباشرة من خلال مقرر يحمل ذات الاسم، أو بشكل غير مباشر فى ثنايا الحوارات والنقاشات المتنوعة التى تتم فى الفصل بين المعلم وتلاميذه.

3 - النوع

من المتوقع أن يمارس هذا المتغير دوراً مهماً فى تشكيل مهارات المحاجة من منطلق ان الذكور يتم تنشئتهم، فى مجتمعنا، بصورة مختلفة إلى حد ما عن الإناث فالذكر يشجع على أن يناقش الآخرين، حتى الأب، فيما يطرحونه عليه من أفكار، أما الأنثى فكثرة النقاش علامة على عدم المطاوعة وهى صفة سلبية حري بها الابتعاد عنها. هذا هو التصور المتوقع لدور النوع بيد أن نتائج الدراسات التى أجريت فى مصر حول طبيعة تأثير هذا المتغير توصلت إلى خلاصة مغايرة حيث تبين عدم وجود فروق دالة بين الذكور والإناث فى مهارات المحاجة بشكل عام، وهو ما يشجعنا على القول إننا إزاء عقلية حجاجية واحدة سواء كان صاحبها ذكرا أم أنثى، وأن الخلاف فى مستوى وطبيعة تلك العقلية يعزى لعوامل أخرى غير النوع مثل مستوى ارتقاء المهارات والقدرات المعرفية، وسعة والانفتاح الثقافى بشكل عام. ومما يساعدنا فى فهم التقارب بين المهارات الحجاجية للذكور والإناث فى مجتمعنا الراهن أننا تعاملنا فى سلسلة دراساتنا هذه مع طلاب وطالبات فى الحضر على مستوى مراحل التعليم الإعدادي والثانوي والجامعي، وحيث أنهم يتعرضون بمقادير متشابهة لذات المحتوى المعرفي والمعلوماتى سواء فى مقرراتهم الدراسية أو وسائل الإعلام فضلا عن أن ثمة توجه فى تلك المجتمعات للتعامل مع الأنثى المتعلمة بصورة تقترب من الذكر، ولا يفوتنا كذلك التنويه إلي ذلك الدور المتنامى لإدراك المرآة فى المجتمع كعضو فاعل وعقل مكافئ – كل هذه العناصر ساهمت فى ظهور تلك النتيجة التى نعتقد أنها تسير فى الاتجاه الصحيح، والمرغوب حضاريا أيضا. ولكن هذا لا يمنع من وجود بعض الفروق النوعية بين النوعين مثلما توجد فروق أيضا داخل النوع الواحد، حيث تبين أن عامل المبادأة والتوكيد الحجاجى كان أكثر بروزا لدى الذكور فى حين أن عامل الاستمالة الحجاجية كان أكثر ظهوراً لدى الإناث كذلك فإن عامل اعتبار النظرة المستقبلية إبان المحاجة كان أكثر بروزاً لدى الذكور، والاستدلال العكسي، وطرح الأسئلة، فى حين تميزت الإناث بالميل إلى النظرة التفصيلية للأمور، والأخذ فى الحسبان الظروف الخاصة للحالة موضع النقاش، وكذلك التقدم بالحلول التوفيقية.


(4-2) المتغيرات المعرفية:

بما أن المعرفة تسبق السلوك وتسهم فى تشكيله فلنا وأن نتوقع أهمية الدور الذى تؤديه العوامل المعرفية المتنوعة فى تحديد طبيعة مهارات الحجاجية، ويتمثل أبرز هذه المتغيرات فى: التفكير الناقد، والتفكير الاستدلالي، والعزو، وفيما يلى نعرض بشيء من التفصيل لدور كل منها كمحدد للمهارات الحجاجية.

 

- التفكير الناقد Critical thinking:- يتضمن التفكير الناقد مهارات نوعية متعددة يحددها "هالبرن" على النحو التالى "التحليل، والاستنتاج، والتأليف، والتطبيق، والتقييم، والمقارنة، والتحقيق، والتفسير" (Halpern, 1994) ومن شأن ارتفاع هذه المهارات لدى الفرد تمكينه من ممارسة المحاجة بصورة أكثر فعالية وبخاصة فى مجال تفنيد حجج الطرف الآخر، وتقييم مدى صدقها، واكتشاف ما بها من مغالطات، ومدى اتساقها الداخلى والتزامها بالقواعد المنطقية، وفحص مدى ارتباط الأدلة بالدعوى التى تثبتها، وهو ما يجعل من الصعب على الآخر خداع الفرد أو إقناعه بشكل مغلوط منطقيا أو عاطفيا بما يطرحه عليه من حجج.

إن الشخص مرتفع التفكير الناقد ينطبق عليه مقولة سيدنا عمر بن الخطاب الشهيرة "لست بالخب (الماكر) ولكن الخبَّ لا يخدعنى".

 

- الاستدلال Reasoning:- يعرف الاستدلال بأنه "نمط من التفكير يسير فيه التفكير من حقائق معروفة أو قضايا مسلم بها إلى معرفة المجهول الذى يتمثل فى نتائج ضرورية لتلك القضايا على المستوى الذهني، وأنه يتضمن ثلاث مهارات فرعية هى:-

  •  الاستنباط Deduction (الانتقال من القاعدة العامة وتطبيقها على الجزئيات والحالات الخاصة)

  •  الاستقراء Induction (التوصل إلى القاعدة العامة من الجزئيات والحالات الخاصة).

  •  الاستنتاج Inference:- (التوصل إلى نتيجة معينة من مقدمات وبيانات متوفرة).

(سلطان، 1986)، ووفقا لهذا التصور فإن تمتع الفرد بمستوى مرتفع من هذه المهارات الثلاث يمكنه من دعم أدلته الشخصية والدفاع عنها أثناء المحاجة، وإقناع الآخر بها من خلال الحجج الاستنباطية والاستقرائية فضلا عن استخدام الأسئلة بأنواعها المختلفة سواء كانت استفهامية أو استنكارية أو تعجبية، والاستدلال بالوقائع الحياتية والتاريخية لإثبات أو تفنيد دليل، وممارسة عمليات التعميم الاستقرائي المنضبط، وكشف المغالطات فى استنتاج الطرف الأخر الاستدلالي الزائف، أو فساد عمليات التعميم وتهافتها، وهى أشياء من شأنها تحسين موقف الفرد فى عمليات الحجاج مع الآخرين.

 ومن هنا يمكن القول بأنه بمقدورنا تنمية مهارات المحاجة من خلال تدريب الأفراد على استراتيجيات الاستدلال وكيفية استخدامها فى عمليات المحاجة.

 

- العزو Attribution:- ابتداء يشير العزو إلى قدرة الفرد علىالتسليم بوجود العديد من المعارف والمشاعر والنوايا لدى الآخر، والاعتماد عليها فى تفسير والتنبؤ بسلوكه. (Bonaiuto & Fasulo, 1997) ومن المتوقع أن يؤدى فهم دور عملية العزو فى المحاجة إلي تعظيم فعاليتها، فقد تكون الحجة المضادة قائمة على خطأ تحيزى عزوى، ومن ثم فإن كشفه يهدم الحجة كأن يحتج شخص ما بأن هذا الزميل لا يشاركنا مناسباتنا الاجتماعية لأنه يتعالي علينا في حين أن هذه التفسير العزوي غير دقيق لأن هذا الزميل يعاني من حالة أسي ناتجة عن فقد عزيز عليه لا يعلمها صاحب هذا التفسير وهكذا. وكما هو معروف فهناك مصادر متعددة لأخطاء العزو مثل تحيز العزو الأساسي fundamental attribution error والذي يتمثل في ميل الفرد لعزو سلوك الآخرين لاستعدادات شخصية وعوامل داخلية، وعزو سلوكه في المقابل لعوامل خارجيةnisbett etal, 1982)) فنجده مثلا ينسب فشله لعوامل خارجية، وفشل الآخرين لعوامل ذاتية (فحين يرسب الأخر فلأنه قليل الذكاء أما هو فلأن المصحح متشدد ويضطهده) وفى المقابل ينسب نجاحه لعوامل ذاتية ونجاحهم لعوامل خارجية (فهو ترقى لكفاءته أماهم فلأن لهم أقارب مهمين) (Baron & Byrne 1991) 66-70، وهناك أيضا أخطاء تنبع من الاعتماد على قواعد حدسية استدلالية مرتجلة Heuristics والتى يعتمد عليها الفرد لتقييم احتمالات معينة أو التنبؤ بأوضاع معينة فى ظل محدوديه معلوماته حولها، كأن يعتمد على قاعدة التمثيل والتى تحدد مدى انتماء موضوع أو فرد ما لفئة معينة فيقوم من خلال لقاء سريع بشخص ما فى مقابلة عمل لمدة عشر دقائق بالحكم فى ضوء سلوكيات محدودة أصدرها بأنه ينتمي لفئة المقبولين المتميزة أو غير المتميزين، أو أن يستخدم قاعدة الإتاحة والتى تساعده على تقييم احتمال ما من خلال سهولة حضور الأمثلة المتصلة به للذهن (تقدير نسب الطلاق فى المجتمع فى ضوء الحالات المحيطة به، أو أسباب التعاطي بناء على الأسباب المسئولة عن تعاطى حالة أو حالتين شاهدهما)، وبناء على ذلك فإنه قد ينتج عن استخدام تلك القواعد بعض المغالطات Fallacies ومن شأن فهم دور العزو والقواعد الحدسية فى نشأة تلك الأخطاء وآثارها السلبية على عملية المحاجة تقليص تلك الآثار ومن ثم رفع كفاءة الفرد إبان القيام بمحاجة الآخرين، فعلى سبيل المثال من شأن الوعى بالأخطاء الناتجة عن عملية التمثيل أن يجعلنا أكثر تحريا للدقة أثناء المحاجة ونحن بصدد إصدار عمليات تعميم، وأن نميل لإعطاء تقديرات كمية للأشياء بدلا من إسباغ أوصاف كيفية عليها - وفى ختام حديثنا عن دور المتغيرات المعرفية فى المحاجة نود الإشارة إلى أن ما ذكرناه هو دور بعض تلك المتغيرات فقط وليس كلها ذلك أن هناك متغيرات أخرى مهمة أيضا يمكن طرحها فى سياق أخر بشكل أكثر استفاضة من قبيل القدرات الإبداعية وكيف يمكن توظيفها فى ابتكار حجج جديدة أو طرق مستحدثة فى تفنيد الحجج المطروحة، وكذلك دور عمليات التذكر فى رفع مستوى الفرد الحجاجى وهكذا 000


(4-3) المتغيرات السلوكية:

ينتظم فى هذه الفئة مجموعة من المتغيرات التى تسهم، إما منفردة أو مجتمعة، فى تحديد مستوى المهارات الحجاجية للفرد فى المواقف المختلفة ومن اهمها: السلوك التوكيدي للفرد، ومعدل تعرضه لمحاجات سابقة، وطبيعة العائد الذى جناه كنتيجة للإشتراك فى عمليات حجاجية فيما مضى، وفيما يلي سنلقى نبذة عن دور كل متغير.

 

- السلوك التوكيديAssertive behavior: يعرف التوكيد بأنه "مهارات سلوكية، لفظية وغير لفظية، نوعية، موقفيه متعلمة، ذات فعالية نسبية، تتضمن تعبير الفرد عن مشاعره الايجابية (تقدير – ثناء) والسلبية (غضب – احتجاج) بصورة ملائمة، ومقاومة الضغوط التى يمارسها الآخرون لإجباره على إتيان ما لا يرغبه، أو الكف عن فعل ما يرغبه، والمبادرة ببدء والاستمرار في، وإنهاء التفاعلات الاجتماعية، والدفاع عن حقوقه ضد من يحاول انتهاكها شريطة عدم انتهاك حقوق الآخرين " (شوقى 1998، 59). وفى ظل هذا الفهم لمتغير السلوك التوكيدي لنا أن نتوقع أن شروع الفرد فى عملية المحاجة أو الاستمرار فيها يتطلب قدراً مرتفعا من توكيده لذاته، ذلك أن حد قول " جيمس بالدوين" لا يمكن أن تغير شيئا إلا إذا واجهته" (باترسون، 1999، 24) والمحاجة تتطلب فى المقام الأول القدرة على مواجهة الاخر والتعبير عن مدى قبول أو الاختلاف معه فى الرأى، وعدم الانصياع لما يقول، وطلب تفسيرات منه، وطرح أسئلة عليه، وهى مهارات توكيدية تصعب على منخفض التوكيد ممارستها، ومن ثم سيصبح من الصعب عليهم المشاركة، أو الاستمرار، فى عمليات حجاجية ناجحة.

 

- معدل التعرض أو الانخراط فى محاجات سابقة: كما يقال فى الأثر فإن من ألف تقبل، ومن تمرن تمرس، لذا فإن أزدياد معدل تعرض الفرد سواء فى سياق الأسرة أو الأصدقاء أو العمل أو المجتمع المحلى والعام لعمليات حجاجية حول قضايا مختلفة سيجعله على ألفة بعمليات الحجاج، ومن ثم سيصبح أكثر تقبلا واعتيادا لها كذلك، وهو ما سيزيد من احتمال ممارساته الفعلية للحجاج والانخراط فيه، ومن المفترض فى مثل تلك الحالات أن التعرض المرتفع لعلميات حجاجية من شأنه أن يصقل مهارات الفرد الحجاجية من خلال لعمليات التعلم بالاقتداء. وذلك بواسطة تحليل سلوكه المحاجين البارعين الذين يشاهدهم، وحذو حذوهم فضلا عن الوقوف على نقاط ضعف المحاجين الفاشلين وتجنب الوقوع فى أخطائهم، وبطبيعة الحال فإن ارتفاع مستوى ذكاء الفرد يسمح له بتكوين قدوة حجاجية من كل المحيطين به تجمع نقاط قوتهم، وتستبعد نقاط ضعفهم، ولعل هذا ما يفسر النمو الملحوظ في المهارات الحجاجية للمواطن الغربي حيث يتعرض في كثر من الأماكن التي تعتبر بديلا مقبولا في تلك المجتمعات للسبل الأخري لحل الصراعات من قبيل العدوان أو الانسحاب.

 

- طبيعة العائد الذي يتلقاه الفرد ويدركه للمحاجة: جدير بالذكر أن التعرض المكثف لعمليات حجاجية ليس وحده هو العامل المؤثر في زيادة ميل الفرد وارتفاع معدل انخراطه في عمليات الحجاج، بل إن طبيعة العائد الذي يتلقاه النماذج المنخرطة في عمليات الحجاج فضلا عن الشخص نفسه حين يشترك فيها له دور مهم فى تشجيعه على أو تثبيطه عن الانخراط فى عمليات المحاجة، فعلى سبيل المثال حين يدرك الفرد أن من يشترك فى محاجة من المحيطين به سواء فى نطاق الأسرة، أو العمل أو حتى وسائل الإعلام يحصل على مزيد من التقدير ويحقق القدر الأكبر من أهدافه، ويحل معظم مشاكله من خلالها فإنه سيميل إلى تبني اتجاهاً إيجابياً نحو المحاجة، والعكس صحيح بالطبع، وكذلك فإنه حين ينخرط فى محاجة مع الأصدقاء حول أمور خلافية ويستطيع أن يغير من مواقفهم بواسطتها فسيدعم هذا من إيمانه بتلك الوسيلة الفعالة فى التعامل معهم أما حين يغضبون منه ويتهمونه بأنه "سوفسطائى" ويسعى من خلال قدراته الحجاجية إلى السيطرة عليهم، وهو ما لا يقبلونه، بل قد يهددونه بالمقاطعة، أو يتجنبونه بالفعل، فى مثل تلك الظروف فإن مثل هذا الفرد سيقلل من اشتراكه فى عمليات حجاجية لاحقة وسيتبنى مقولة أن أخسر مجادلة أفضل من أن أفقد صديقاً.


(4-4) متغيرات اتجاهيه:

نقصد بهذه الفئة من المتغيرات كل من اتجاه الفرد نحو المحاجة، واتجاه الثقافة التى يعيش فيها نحوها أيضا، وبطبيعة الحال هناك علاقة بين المتغيرين بيد أن ثمة استقلال بينهما أيضاً لذا سنعرض لكل منهما علي حدة.
 

 

 

 

1- اتجاه الفرد نحو المحاجة
يعرف الباحثون الاتجاه Attitude نحو المحاجة بأنه "طبيعة تصورات (ومعتقدات) ومعارف الفرد، سواء كانت إيجابية أو سلبية، حول المحاجة، والمحاجين ومشاعره نحوهما، والتي تحدد مدي انخراطه في عمليات حجاج حول قضايا خلافية مع الآخرين". وفي ظل هذا التصور فإن الفرد الذي يتبنى تصورات إيجابية حول المحاجة من حيث أنها وسيلة فعالة في حل الصراعات، وأن الآخرين يحترمون الشخص الذي بميل لاستخدامها، وأن المحاج هو شخص يتسم بالعقلانية والموضوعية، وواثق من نفسه، ومتحضر، ومحبوب من الآخرين – مثل هذا الفرد سيميل للمحاجه وللمحاجين ومن ثم يتوقع أن يزداد معدل مشاركته في أنشطة حجاجية أما حين يتبنى مثل هذا الفرد تصورات ومشاعر سلبية نحو المحاجة، فالمحاجة وسيلة للسيطرة علي الآخرين وخداعهم فهي نوع من السفسطة والمحاج هو شخص متحيز يسعى بعقلية الحجاجية البارعة للسيطرة على الآخرين. وهو متصلب لا يستمع إلا لرأيه، ومما طل، فإن مثل هذا الفرد سيميل حينئذ إلى تبنى موقف رافض للمحاجة وغير محبذ للاشتراك فيها، بل وقد ينفر من المحاجين ولا يحب مخالطتهم، وبالتالى يتجنب مصادقتهم. وبناء عليه فإنه من الضرورى لكى نشجع الفرد على تنمية مهاراته الحجاجية، نظاميا أو ذاتيا، إن نغير اتجاهه نحو المحاجة فى الوجهة المرغوبة أولا.
2- اتجاه الثقافة نحو المحاجة وشيوع المحاجة فيها
من المفروض وجود علاقة طردية وثيقة بين تحضر الثقافة واتجاهها نحو المحاجة، ومن ثم شيوع المحاجة فيها، فكلما أرتفع مستوى تحضر الثقافة اتسم اتجاهها نحو المحاجة بالإيجابية، ومن ثم تشيع عمليات المحاجة فيها، وبالتالى تظهر وتستقر تقاليد راسخة وقواعد محددة تنظم عمليات المحاجة داخلها، سواء بشكل رسمى أو غير رسمى، مثلما الحال قديما فى كل من الحضارة اليونانية، كما تجسد فى محاورات أفلاطون، وفى الحضارة الإسلامية كما يدل على ذلك علم الجدل عند علماء أصول الفقه، وحديثا كما يبدو ذلك فى نظام المحلفين القضائى، والمناظرات الانتخابية بين المرشحين للرئاسة، فى الثقافة الغربية المعاصرة - ولا يقتصر الأمر بالطبع على ازدهار عمليات المحاجة فى المؤسسات العامة والرسمية بل على المستوى الشخصي والأسرى والمحلى أيضا حيث نجد أن الثقافة الغربية، مثلا، تتبنى اتجاها محبذا للمحاجة مما يشجع أفرادها سواء أثناء مناقشة المسائل الخلافية على مائدة الطعام فى المنزل أو طاولة الاجتماعات فى العمل على أن ينخرطوا فى العمليات الحجاجية التى تقوم على المنطق والاستدلال والتفكير الناقد، ويتم تقديم عائد إيجابي لهم متمثلا فى مزيد من الملاحظات التى ترفع كفاءتهم إبان المحاجات اللاحقة، أو تدعيمهم من خلال تيسير سبل للوصول إلى حقوقهم حين يلجأون إلى تلك الوسيلة دون غيرها، فضلا عن لفت أنظارهم حين يتجنبون سلوك سبيل المحاجة، وإشعارهم بأن السبل الأخرى كالعنف مثلا ستشوه صورتهم فى عيون الآخرين. وفى المقابل علينا أن ندرك أن بعض الثقافات المجارية قد تتبنى اتجاها سلبيا نحو المحاجة والمحاجين، فهي عمليات سفسطة، والمحاج ما هو إلا شخص متمرد ويحب الظهور، ومشاكس مما يدفع بأفرادها إلى تبنى اتجاهات سلبية نحو المحاجة ويميلون بموجبها إلى تجنب الاشتراك فى عمليات الحجاج (Roach, 1999) بيد أن، الموقف الذى نراه سواء أن المحاجة نشاط إنساني إيجابي يعمل على تنمية مدارك الفرد، وتوسيع أفقه العقلي، وتدريب منطقه، وقدرته على الحوار والتفاعل البناء مع الآخر وفهم الأشياء بصورة أفضل، وحل الصراعات، وتجاوز الخلافات إلا أن استخدامها بصورة غير حكيمة حيث الإفراط فيها دونما داع، والإكثار من ذكر الحجج أثناءها بدون مبرر كافي، والاستقواء على ذوى القدرات الحجاجية الضعيفة بواسطتها قد يجعل تأثيرها عكسيا على الأطراف الأخرى، وهو ما لا نرغبه ذلك أنها كالدواء لا يستخدم إلا عند الحاجة، وبمقدار يتناسب معها، فالضرورة تقدر بقدرها.