نعنى هنا بذلك المفهوم تلك الأطر التصورية، وما يستتبعها من وسائل، التى تتصل بالأساليب الأمثل لتحقيق الغايات المرجوة فى هذا المقام، وتتمثل ابرز الاستراتيجيات التى يتبناها مصممو برامج تنمية المهارات المجاجية فى تقديم جرعة معرفية للفرد حول المحاجة، وقواعدها، وأساليبها الفعالة ذلك أن تزويد الفرد بمثل تلك المعلومات سييسر عليه اكتساب المهارات الحجاجية التى تعد تطبيقا لتلك المعارف النظرية فى الواقع الفعلى مما يمهد السبل لنجاح عمليات التنمية النظامية أو الذاتية للمهارات الحجاجية، ولا غرو فى ذلك فالفكر المنظم دوما يسبق السلوك ويوجهه ويحدد له مساراته الرشيدة.
- الاعتماد النسبى على الأساليب الذاتية لتنمية مهارات المحاجة، فكما نعلم هناك منحيان للتنمية المهارية، الحجاجية وغيرها، أولها التدريب النظامي من خلال تعريض الفرد وإلحاقه بمجموعة من البرامج المقننة والمخصصة لهذا الغرض والتى يصممها مجموعة من المتخصصين فى تنمية تلك المهارات، وهو أسلوب أقل إتاحة للقاعدة العريضة من شبابنا نظراً لعدم انتشار بل وندرة مثل هذه النوعية من البرامج فضلا عن إنها قد لا تلبى الاحتياجات المتفردة لكل متدرب نظراً لطابعها العام الذى يركز على جوانب الاشتراك وليس الفروق الفردية بين المتدربين، ويحاول تلبيتها، وثانيها التدريب الذاتى(20) Self training حيث نزود
الفرد بمجموعة القواعد والمبادئ الحاكمة لتنمية وارتقاء المهارات الحجاجية فضلا عن مجموعة من الإرشادات والتوجيهات المعينة له على القيام بتلك المهمة بنفسه، وهى الاستراتيجية الأكثر انتشارا ويسراً وتلبية للاحتياجات الخاصة لكل متدرب حيث يمكن القيام بها فى الوقت والمكان والكيفية والسياق الذى يريده الفرد.
- إشراك الفرد فى محاجات متنوعة بصورة مقصودة مع آخرين. وتتمثل أهمية هذه الطريقة فى أنها تقترب من الواقع الحجاجى للفرد فى حياته اليومية بصورة كبيرة، وتسمح له بالدربة واكتساب الخبرة والألفة بمثل تلك العمليات، ويفترض أن تأثير مثل تلك المباريات الحجاجية يصبح أكثر فائدة حين يقدم للفرد أولا بأول عائداً feedback حول أداءه فيها سواء كان إيجابياً، ليحافظ على تقدمه، أو سلبيا، لتلافى ما يقع فيه من أخطاء تقلل من هذا التقدم وهو ما يسمح له فى نهاية المطاف بتطوير مهاراته الحجاجية فى الوجهة المرغوبة.
- عرض نماذج لمحاجات حية أو مصورة حول موضوعات بعينها بما يتفق مع غايات التدريب كأن تكون جلسات محاكمة لمن يراد تدريبه من رجال النيابة مثلا، وتحليل جوانب القوة والضعف فى أداء الأطراف المتنوعة فيها فضلا عن المبادئ والقواعد الحجاجية الماهرة، ونطلب من الفرد القيام بتحليل هذه المحاجات أيضا حتى يبلى بلاء حسنا فى المحاجات اللاحقة مثلما يفعل مدربو لاعبي كرة القدم حيث يصورون المباريات بالفيديو ويعرضونها فيما بعد على اللاعبين لتحليل الأخطاء، ومعرفة القواعد، والممارسات الموجبة حتى يتأسوا بها.
(20) حرى بالذكر أن عمليات التدريب الذاتى كانت شائعة فى الحضارات القديمة كاليونانية والإسلامية وما قبلهما نذكر منها على سبيل المثال، قصة نبوغ ديموستينس عظيم خطباء اليونان فى زمانه حيث استمع يوما إلى أحد الخطباءفهزته قوة تأثيره حتى صمم على أن يصير خطيبا، وكنه كان ألغثا، ضعيف الصوت، سريع التنفس مختلط مخارج الألفاظ وأدرك الموقف وراح يطلب فن الخطابة على أيدى أبلغ خطباء زمانه، ولكنه لم ينجح أيضا. وحين حلل أسباب ذلك الفشل تبين أن البرنامج العادى لإعداد الخطباء لا يكفيه، ومضى للتو فى وضع برنامج خاص به، واختلى بنفسه أمام المرآة ليتعلم التمثيل، وفى الهواء الطلق ليدرب أوتار صوته، وحتى يتجنب الإنشال بالناس كان يحلق نصف رأسه حتى يخجل من الخروج عليهم، وليحسن قدرته على التنفس كان يواصل الصياح وهو يجرى على على المنحدرات حابسا تنفسه حتى يتم كما محددا من الكلمات (فتحى، 1933، 42-44).
وهناك أمثلة عديدة لنماذج متميزة من علماء الحضارة الإسلامية استطاعوا أن يصلوا إلى مكانة متميزة فى مجالاتهم من خلال عملية التنمية الذاتية أيضا مثل واصل ابن عطاء الذى كان خطيبا وأصوليا، ومجادلا بارعا، بيد أنه كان يعانى من لثغة(ينطق الراء ياء) كانت مثار سخرية معارضيه منه فقرر أن يلحظ المستمع أى تعسف فى عملية انتقاء كلماتها، ومن جودتها سميت الخطب الرائية (الجاحظ، 1985).