مكونات المحاجة:

حتى نتمكن من التوصل إلى مبيان للمهارات الفرعية المستخدمة فى عمليات المحاجة قام الباحثان(1) بتحليل محتوى Content Analysis (66) محاورة حجاجية إبان الحضارة اليونانية والإسلامية والأوربية والعربية الحديثة والمعاصرة، وتم التوصل نتيجة لذلك إلى مجموعة من المكونات Components والسلوكيات الحجاجية المهمة بلغ عددها (54) مكونا لسلوك المحاجة التى توجد بدرجات متفاوتة عبر الحقب، والتى يتضمنها جدول (2-1) مكونات المحاجة التي كشف عنها تحليل مضمون 66 محاورة ومقالة.

لاستعراض محتويات الجدول أضغط على اسم الجدول بأعلى:

نلاحظ من خلال استعراض المكونات التى يحتويها الجدول السابق (2-1) ما يلي:

 

  ‌أ- أن 20 مكونا (بنسبة 37.04% من مجموع المكونات) تشيع بين متحاورين من فترات تاريخية مختلفة وثقافات متباينة، مما يعنى أنها تمثل قاسما مشتركا بينها، وبتفحص هذه المكونات يتضح أن:

- يتعلق بعضها إما بجوانب منطقية مثل: إبطال دعوى الآخر بإثبات نقيضها، وجر المحاور إلى التسليم بحجة معينة وجعلها مقدمة تلزم عنها نتيجة كان يرفضها، وقلب الحجة، والدخول فى دائرة مفرغة، وإما تتعلق بجوانب لغوية كالإصرار على تسمية الأشياء بمسمياتها والتركيز على حرفية المعنى واكتشاف خلط المفاهيم.

 

 

- يعكس بعضها الآخر عمليات عقلية عليا مثل: طلب الإيضاح ويتمثل فى المطالبة بتطبيق الفكرة على أمثلة عيانية، وذكر أمثلة محسوسة لها، والتوضيح من خلال ذكر تشبيهات أو ذكر أمثلة معارضة لها، والأصالة وتتمثل فى ذكر تفسير مختلف للحدث أو الفعل، والتحليل أي تحليل الفكرة إلي عناصرها، والتركيب أي جمع المقدمات فى سلسلة متكاملة، والخيال أو إلقاء أسئلة افتراضية وانتزاع موافقة الآخر على إجاباتها.

 

 ‌ب- هناك تباين فى شيوع مكونات سلوك المحاجة من فترة تاريخية لأخرى، ويأخذ هذا التباين صورتين هما:

الأولى: أن عدد المكونات التى تشيع بين المتحاورين يتزايد كلما اتجهنا نحو الحداثة، فبينما استخدم المتحاورون فى حقبة الفكر اليوناني مع التنويه إلى كون المحاورات التى تم تحليلها لا تمثل المرحلة بدقة  31 - مكونا (بنسبة 56.4%) مقابل 48 مكونا (بنسبة 70.4) تشيع فى مرحلة الفكر الإسلامي، و43 مكوناً (بنسبة 79.3%) فى مرحلة الفكر الأوربي المعاصر، و46 مكوناً (بنسبة 85.2%) فى مرحلة الفكر العربي المعاصر. ويعد هذا التزايد مقبولا فى ضوء تميز كل من الفكر الإنساني بالتراكمية وتميز الأفراد بالاستفادة من الخبرات السابقة.

 

الثانية: أن هذا التباين لا يقتصر على كم المكونات فحسب، وإنما يشمل نوعيتها أيضا، ففي مرحلة الفكر اليوناني وننوه مرة أخرى إلى قصور تمثيل المحاورات التى تم تحليلها للمراحل التاريخية مما يعنى الحذر عند التعامل مع هذه الاستنتاجات تحظى بالأولوية مكونات: ادعاء عدم الفهم لاستدراج الآخر إلى توضيحات توقعه فى المغالطة، وإعادة صياغة ما تم فهمه، وإبراز خلط المعاني والمفاهيم. أما فى مرحلة الفكر الإسلامي فإن ما يحظى بالأولوية هي مكونات: صحة النقل للأمور المروية، والتركيز على حرفية المعنى، وقلب الحجة وإضافة عنصر جديد للفكرة المطروحة، ويشيع فى مرحلة الفكر الأوربي المعاصر مكونات مثل: ذكر تفسير مختلف للحدث، وانتزاع تسليم الآخر بمعنى مفهوم ما، وإضافة عنصر جديد للفكرة المطروحة، وهو ما يعكس التوجه الإبداعي والاستقلالي والمؤكد للذات للثقافة الغربية المعاصرة فى حين يشيع فى الفكر العربي المعاصر مكونات: التركيز على حرفية المعنى، والمبالغة البلاغية والمجازية، ومهاجمة المحاور شخصيا بدلا من تفنيد وجهة نظره، والاستشهاد بأقوال مأثورة أو نص شعري، والتركيز على الأشخاص لا الموضوعات.

 

    ‌ج-  باستعراض محتوى المكونات السابقة بغض النظر عن الفترة التاريخية التى تنتمي إليها المحاورات والمقالات نلحظ إمكانية تصنيف مكونات سلوك المحاجة إلى فئات يمكن أن تمثل محور فرض تتحقق دراسة عامليه لاحقة من صحته، ومن الفئات التى تنتظم فيها مكونات سلوك المحاجة:

- مكونات تشير إلى قدرات المحاور الإبداعية مثل: الأصالة وتتمثل فى تقديم تفسير مختلف للحدث وإضافة عنصر جديد إلى الفكرة المطروحة، ومثل القدرة على التركيب أو جمع المقدمات فى سلسلة متكاملة، والقدرة على التحليل أو تحليل الفكرة إلى عناصرها، والقدرة على تقديم توضيح أو توسيع للفكرة من خلال ذكر التشبيهات وذكر الأمثلة المعارضة لها.

- مكونات تشير إلى قدرة الفرد على الإتيان بسلوك مؤكد للذات فى موقف المحاورة كانتزاع تسليم الآخر بتحديد معنى مفهوم وإلزامه بما هو محسوس، وانتزاع موافقته على إجابة سؤال افتراضي.

- مكونات تشير إلى إصدار المحاور سلوكا عدوانيا، ومنها: السخرية اللاذعة، وتجاهل المطلوب أو المصادرة عليه، ومهاجمة الآخر شخصيا بدلا من تفنيد وجهة نظره.


أبعاد سلوك المحاجة:

اعتمدت الدراسة السابقة على أسلوب تحليل المضمون للوقوف على مكونات المحاجة، وعلى الرغم من أهمية هذا الأسلوب إلا أننا نظل بحاجة إلى استخدام أساليب أخرى بجانبه ذات طابع إحصائي كالتحليل العاملى Factor Analysis كي نصل إلى أبعاد أكثر دقة وتمثيلا للسلوك الحجاجى فى الحياة اليومية فى الثقافة المصرية، لذا صممنا مقياسا(2) لأبعاد Dimensions سلوك المحاجة طبقناه على (617) فردا من الطلاب والموظفين من الجنسين ويتكون المقياس من (95) بندا تنتظم فى (28) مكون فرعى تستخدم إبان المحاجة يكشف عنها جدول (2-2) مكونات مقياس أبعاد سلوك المحاجة والبنود التى تمثلها.

لاستعراض محتويات الجدول أضغط على اسم الجدول بأعلى:

حين حللنا هذه المكونات الثمانية والعشرين، والتى ينتظم فيها خمسة وتسعون بنداً، عاملين على مستوى العينة الكلية المكونة من (617) من الطلاب والطالبات الجامعيين والموظفين والموظفات المصريين توصلنا إلى العوامل الأربعة الرئيسية التالية والتى يوضحها جدول (2-3) العوامل المدورة لسلوك المحاجة لدى العينة الكلية.

لاستعراض محتويات الجدول أضغط على اسم الجدول بأعلى:

بفحص تلك النتائج سنجد أنه بإمكاننا وضع أيدينا على العديد من النقاط التى من شأنها الإسهام فى تعميق فهمنا لطوبوغرافيا السلوك الحجاجى ودلالته الثقافية بصورة أفضل وتتمثل تلك النقاط فيما يلي:

 

 

  ‌أ- تبين أن العامل الأكثر أهمية التى تنتظم فيه مكونات السلوك الحجاجى ومهاراته الفرعية، والأكثر استخداما وشيوعا لدى أفراد العينة الكلية،

وهم من ذوى مستويات التعليم المرتفعة، هو عامل الهيمنة الحجاجية، أو بلغة أخرى التفنيد الهجومي لحجج الطرف الآخر لإفحامه، والذي يعكس ميلاً لدى المحاج إلى تفنيد حجج الطرف الآخر من خلال استخدام أساليب متعددة ذات طابع هجومي عادة تتمثل فى المناقضة، والاستفزاز، والتخويف، والتعجيز، والتشتيت، والاستدراج، وكشف التناقض، مما يعنى أنه يركز فى المقام الأول على دحض حجج الآخر، والهجوم عليها بدرجة أكبر من اهتمامه بإقناعه بالحجج التى يطرحها عليه، وهو أسلوب من شأنه إثارة حساسية الطرف الآخر، وإيجاد مناخ يساعد على تحول عملية المحاجة إلى نزاع لفظي مما يقلل من احتمالات الوصول إلى نقطة سواء لحل الخلاف بين الطرفين حول المسألة مناط الحوار. ترى هل تعد هذه الظاهرة غير صحية؟ أم أن طبيعة الموقف كما يقول "سلاتر واندرسون" تملى ذلك النمط من السلوك، ذلك أن إقناع الفرد بقبول معلومات جديدة وتغيير موقفه حولها يصبح مهمة اكثر صعوبة حين يكون لديه تصورات ومعتقدات مسبقة مقتنعا بما حولها، لان المسالة حينئذ لن تكون مجرد إقناعه بصحة تلك المعلومات، بل يجب إقناعه أولا بضرورة التخلي عن معتقداته القديمة وخاصة حين يكون مقتنعا بها بأدلة منطقية (1996,Sluter & Anderson).

 

ب- أتى عامل الإقناع باستخدام عمليات الاستدلال المنطقي، والتى تعد من أكثر أنشطة حل المشكلات أهمية بما تتضمنه من عمليات تعميم وتمثيل واستنباط (1983,Nisbett et al.) فى الدرجة الثانية من الأهمية، وهو ما قد يعنى أن الفرد يبدأ أولا بتفنيد حجج الآخر ثم يشرع بعد ذلك فى إقناعه بما لديه من حجج، ويستخدم الفرد إبان ذلك مهارات سلوكيات حجاجية متنوعة(3) تتمثل فى فحص العلاقات بين الظواهر، والتى قد تأخذ أشكالا متنوعة منها: التناقض، والتضاد، والتضايف، والتماثل، والتعدي (سالم، ب ت) بالإضافة إلى ضبط عملية التعميم وتحليل الحجة إلى عناصرها الأولية، وعقد المقارنات بين الظواهر والأحداث، وتوخى الدقة فى البيانات المقدمة، وضرب الأمثال، والاستعانة بالأقوال المأثورة، والمضاهاة وعقد المقارنات.
‌ب- برز عامل الاستمالة الحجاجية
(4)، والتى تتمثل أهميته كما يوضح "كرونبك" فى أنه حين يريد الفرد إقناع آخر بشيء ما يجب أن يتضمن كلامه أكثر من المنطق حتى يتولد لديه الرغبة فى الاقتناع بما يقال له (1990.413, Cronbeck et al.)، وهو عامل له أهمية نفسية أقل من سابقيه مما يجعلنا نفترض أنه لا يستخدم إلا كوسيلة إضافية مساندة لعمليات الإقناع المنطقي لتخفيف حدة الآثار السلبية لعمليات التفنيد الهجومي، وخاصة لدى الإناث، أي أنه عامل ملطف لعملية المحاجة (شوقي وشحاته، 2002).


ج- أتى عامل المبادأة الحجاجية فى ذيل قائمة عوامل المحاجة وقد تشبع عليه ستة مكونات قوامها كشف التناقض، ويشير إلى قدرة الفرد على اكتشاف تعارض إجابات الطرف الآخر على أسئلة مشابهة فى أوقات مختلفة، او البحث عن وقائع تتعارض مع ما يدعى، أو عدم الاتساق بين ما يفعل وما يقول. وجاء "التشكيك" فى المرتبة التالية، ويتضمن التلميح إلى عدم موثوقية المصادر التى ينقل عنها الطرف الأخر بياناته، وإظهار عدم الثقة فى صحة الوقائع الشخصية التى يستعين بها لدعم موقفه، وعدم التسليم بسهولة بما يطرحه من مسلمات. يلي ذلك مكون "توجيه مسار المحاجة" ويحوى سلوكيات من قبيل مطالبة الطرف الأخر بعدم الخروج عن الموضوع الأساسي، ومعارضة محاولته الانتقال إلى نقطة جديدة إلا بعد الانتهاء من تلك التى يتحدثون فيها، ووضع أسس معينة يطالبه بالالتزام بها حتى يبدأ الحديث معه.


ء - وبعد ذلك جاء "ضبط ومراعاة السياق" ويشير إلى حرص الفرد على توضيح معالم الموقف وعدم اجتزاء كلام أو وقائع من سياقها حتى لا يحدث تشوه فى الفهم ثم أتى "التوكيد الحجاجى" حيث يسهل على الفرد إخبار الطرف الأخر بما يحويه كلامه من مغالطات
(5)، ولا ينساق مع ما يسعى لفرضه عليه من أفكار، ويطالبه بذكر مبررات إقناعه برأي ما، ويرفض الضغوط التى يمارسها عليه لانتزاع موافقته على ما يريد. وأخيرا جاء "التأكد من الفهم" حيث يتضمن سلوكيات قوامها تلخيص ما قاله الفرد، او ما قاله الآخر فى نهاية الحديث، للتأكد من الفهم المشترك، وتوجيه المزيد من الأسئلة وترك فرصة كافية للآخر للإجابة عنها حتى يفهم وجهة نظره بصورة دقيقة. يشير هذا العامل إلى قدرة الفرد على إصدار سلوك مؤكد للذات إبان المحاجة يتمثل فى توجيه مسارها، وضبط سياقها، وعدم التوانى فى إخبار الطرف الآخر بمظاهر تناقضه وعدم اتساقه إبانها، بل والتشكيك فى صحة بعض ما يدعيه، لذا يمكننا تسميته بعامل "المبادأة الحجاجية".

 

هـ - ظهر تأثير متغير السياق الثقافى جليا فى ثنايا نتائج الدراسة، ومن مؤشرات ذلك أنه يبدو أن هناك طابع ثقافى لعمليات المحاجة فى الثقافة المصرية جسده أداء أفراد العينة – مع الاعتراف بعدم تمثيلها بصورة دقيقة للمجتمع ككل – قوامه وجود غلبة لسلوكيات التفنيد الهجومي لحجج الطرف الآخر على السلوكيات الرامية لإقناعه أو استمالته لتبنى والموافقة على حجج الفرد، مما يعنى أن عملية المحاجة يغلب عليها الطابع الصراعى، أو يسهل تحولها إلى نزاع فى ظل هذه الممارسات، ومما يثير الاستغراب أيضا أن هذه الأساليب العدائية فى الحجاج والتى يزيد المكون الهجومي الاستثارى فيها، تصدر عن أفراد مرتفعي التعليم(6) ذكورا وإناثا، مما يحدو بنا للتساؤل عن الشكل الذى ستكون عليه السلوكيات الحجاجية لدى منخفضي التعليم أو غير المتعلمين ابتداء؟


 

الهوامش:

(1) الباحث الحالى بالاشتراك مع الأستاذ الدكتور رئيس قسم علم النفس بكلية الآداب ـ جامعة المنوفية.

(2) يمكن الاتصال بالباحث للحصول على نسخة كاملة لبنود المقياس.

(3) أن يدلل على فكرته بأكثر من مثال ويستدل بتجارب الآخرين وأفكار العلماء والحكماء ويلجا إلى بعض الإحصاءات والأرقام. هذه بعض المواصفات التى ذكرها أفراد العينة للمحاج الجيد.

(4) قالت طالبة فى الإعدادي فى محاولة منها لإقناع الآخرين برأيها فى ضرورة عمل المرآة: "لكل بنت أحلام تحلم بها من أهمها أن تسال نفسها ماذا سأعمل عندما أكبر".

(5) قالت إحدى الموظفات إن المحاج البارع هو "القادر على مواجهة أي شخص بآرائه فيه "وقالت أخرى "أن يكون جريئا ولا يخجل من التعبير عن أفكاره".

(6) من شواهد ذلك أن أحد الطلاب الجامعيين ذكر أن من صفات المحاج البارع أن يهاجم آراء الآخرين دائما.