(5-3) التوجيهات العملية والبرامج العلمية لتنمية المحاجة:

أ- التوجيهات والإرشادات العملية لتنمية مهارات المحاجة(تابع الفصل الخامس):

26- حاول أن يكون تفكيرك شبكيا شرطيا بمعني أن الحدث الواحد أو النتيجة الواحدة هي محصلة تفاعل أكثر من سبب في نفس الوقت، وأن حدوثها يتوقف عليها ومشروط بوجودها فعلي سبيل المثال، إن ثورة صديقك عليك لا تعزي فقط لأنه عصبي بل قد تكون تطاولت عليه أو أن ثمة مشكلات أسرية يعاني منها، أو أن حدثا غير مريح تعرض له توا قبيل لقاءك معه، أو أنه يشعر بإحباط لسماعه نبأ غير سار.

 


27- أحذر من أن تكون ممن يستخدمون تفكيرهم لمناصرة حكم تم إصداره سلفا علي أساس من التحيز والعاطفة، وتجنب اللجوء إلي تقييم المعلومات بصورة متسقة مع رغباتك، والميل للبحث عن معلومات انتقائية تؤكد أختيارك، وتجاهل ما يتعارض معها، حتى تعقلن النتيجة المتحيزة، فعلي سبيل المثال قد يميل فرد له اتجاه متعصب ضد الأقليات إلي تصيد، وتجميع، وتذكر الجرائم، والمخالفات التي ارتكبها أبناء تلك الطائفة ليقنع نفسه بأنه محق في اتجاهه الكار لهم، ويتغاضى في ذات الوقت عن أن نسبه أكبر بكثير من أبناء الأغلبية التي ينتمي إليها قد ترتكب جرائم مماثلة أو أكثر بشاعة.

 


28- تأكد من أن التواريخ المذكورة تتسق مع الوقائع: عادة ما يلجأ الطرف الآخر في المحاجة إلى الاستدلال على صحة وقائعه ودقة أدلته بإيراد تواريخ معينة والاستدلال بروايات أشخاص عايشوا الواقعة ومن هنا يجب على صاحب العقلية الحجاجية الدقيقة أن يفحص تلك التواريخ ويتأكد أنها متطابقة مع الواقعة فقد تكون حدثت قبلها أو بعدها بفترة طويلة، وكذلك عليه أن يتحقق من أن الأشخاص الذين يعتمد عليهم الطرف الآخر لإثبات الواقعة قد عاصروها بالفعل، فقد يؤدي هذا التدقيق إلى التأكد من أن هؤلاء لم يكونوا معاصرين للواقعة ومن ثم يثبت عدم صحتها ابتداء، وحتى إن عاصروها فقد تكون رواياتهم غير صحيحة، فما آفة الأخبار إلا رواتها (شرف، 1980، 146). وهناك أمثلة كثيرة على ذلك منها، على سبيل المثال، إن الدفاع الجوهري في أحد القضايا المطروحة على القضاء تمثل في أن الشهود قد حددوا الساعة الثالثة مساء وقتاً لحدوث الجريمة بيد أن تقرير الصفة التشريحية من قبل الطبيب الشرعي أثبت أن الجثة في هذه الحالة كانت في حالة تيبس، وكما هو معلوم فإن التيبس يحتاج لحدوثه إلى ما يترواح ما بين 8-12 ساعة، أي أن القتل قد حدث قبل هذا التوقيت بفترة طويلة نسبياً، ومن ثم فإن هؤلاء الشهود غير صادقين(القاضي، 2001، 83) مثال تاريخي شهير يدلل على صحة هذه القاعدة قوامه أن المؤرخين الذين اتهموا سيدنا عمر بن الخطاب بإحراق مكتبة الإسكندرية قد قام بعض المؤرخين الأوروبيين المسيحيين بدحض اتهامهم استناداً إلى أن الرواية التي تضمنت هذا الاتهام كتبت بعد خمسة قرون ونصف من فتح الإسكندرية، فضلاً عن أن المؤرخ "حنا فلبيوتوس" الذي قيل أنه خاطب عمرو بن العاص في شأن المكتبة وهو ما حدا بسيدنا عمر بن الخطاب لإحراقها، لم يكن حياً في أيام فتح العرب لمصر، فضلاً عن أن تلك القصة ظهرت في عصر الحروب الصليبية مما يرجح احتمال حدوث التلفيق فيها (العقاد، 1979، 267-273). خلاصة القول عليك حين تسمع حججاً تتضمن تواريخ وأشخاص أن تسأل نفسك أولاً: هل هذه التواريخ معاصرة للواقعة أم لا؟ وهل هؤلاء الأشخاص عاشوا أيامها أم لا؟

 


29- قم بإعادة تعريف المفاهيم المستخدمة أو تأكد من دقتها: كما أن الحروف هي المادة الخام للغة التي ينسج منها الشعراء أجمل وأعذب الأشعار، كذلك فإن المفاهيم هي الأساس الذي يقوم عليه الحوار، وما يجري فيه من محاجة، وبناء عليه فإن قدرة الفرد على إدارة عمليات حجاج فعالة يتوقف، بدرجة ما، على قدرة المحاج على أن يحدد مفاهيمه بدقة، وأن يدفع الطرف الآخر لذلك أيضاً، فضلاً عن قدرته على إعادة تعريف المفهوم بصورة تتناسب مع موضوع المحاجة. فعلى سبيل المثال من المغالطات المعروفة في حوارات العلمانيين مع المتدينيين أنهم ينطقون كلمة علمانية Secularism بكسر العين وسكون اللام والذي يوحى خطأ بنسبتها إلى العلم، الذي أصبح من قوى القرن العشرين، وهو ما يضفي قيمة أكبر على المفهوم، مع أن نطقها الصحيح عالمانية (بفتح العين واللام) لتدل على معناها وهو النزعة الدنيوية المهتمة بشئون هذا العالم الذي نعيش فيه وليس العالم الآخر أو الغيب الذي يعنى به الدين (يحيى، 1985، 11) أي أن العلماني هو الدنيوي المهتم بدنياه على حساب آخرته، وليس العالم الموضوعي الذي تتسم رؤيته بالموضوعية، وبطبيعة الحال فإن هذا الخلط يعلي من شأن العلمانية ويعطيها مزية ليست فيها. فالمتدين المسلم أيضاً يعني بشئون الدنيا كما الآخرة "اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً"، وبهذا فإنه في الثقافة الإسلامية، على غير الحال في أوروبا، يمكننا أن نتحدث عن مسلمين علمادينيين. وهناك أمثلة أخرى من قبيل من يقول لموظف عام أمين يرفض الرشوة لتمرير أمر يضر بالمصلحة العامة: كن مرناً، فعليه أن يبادره بالقول: تقصد أن أكون متسيباً. فالمرونة هنا تعني التواطؤ مع الآخر في إهدار المال العام وتغليب المصالح الشخصية على العامة. أو كمن يتحدث عن قائد كفء لا يسمح بالتهاون مع المتكاسلين وينعته بأنه قاسي مع مرؤوسيه، مع أن واقع الأمر يشير إلى أنه حازم مع المتهاونين منهم. ويقدم الدكتور أحمد كمال أبو المجد نموذجاً آخر لتصحيح المفاهيم بقوله: لا شك أن تعبير المأساة – وليس النكسة – هو أدق الأوصاف لما وقع في 5 يونية 1967 (أبو المجد،2002،204).

 


30- التجذير: ويعني السعي نحو البحث في أصل الموضوع مثار المحاجة ومطالبة الآخر بالعودة إلى ذلك الأصل كلما حاول الذهاب بعيداً، سواءً للتشتت أو للتمويه أو للهروب، ذلك أن البحث في جذر القضية يمكننا من فهمها بصورة أشمل وأدق أما الانجراف وراء الفروع وترك الأصول فلن يسمح لنا بالتوصل إلى خلاصة شافية أو إجابة وافية، وهناك شواهد متعددة على ذلك منها ما يثار في مصر الآن حول تبرير فشل المسئولين عن الملف المصري حول استضافة مباريات كأس العالم في عام 2010 (المونديال)، وحصولهم على صفر من أصوات لجنة الفيفا المنظمة له والتي تضم (24) صوتاً، حيث يقول المسئول عن ذلك الملف في دفاعه عن نفسه، ولجنته، لقد رفضنا عروضاً ومساومات لدفع ملايين الدولارات مقابل أصوات غير مؤكدة لأعضاء الفيفا وهو ما رفضناه، لقد خضنا المعركة بأخلاق المصريين الشرفاء ولن ندخل في مساومات غير شريفة، فهل التعامل بشرف وأسلوب الفرسان أصبح خطأ، وإذا كان هذا الشرف خطأ نعم تعترف أننا أخطأنا، لم نترك أي باب لم نطرقه ما عدا باب الإغراءات المالية، فضلاً عن أن البعض من أعضاء اللجنة غيّروا رأيهم في الساعات الأخيرة، والبعض أظهر لنا خلاف الحقيقة وضحك علينا (الوفد، 20 مايو، 2004)، ويتضح بجلاء في هذا السياق أن المسئول ابتعد عن جذر الموضوع وراح يبعد عنه الاتهام بالتقصير بأن يتهم الآخرين مع أن أساس المسألة هل كان هناك تحضير كفء، وفي الوقت المناسب، ومن خلال الأشخاص الملائمين أم لا، فالأمر لا يبدأ من الاتصالات ولكنه ينتهي بها والأصل في الموضوع أن يكون هناك استعدادات فعلية على أرض الواقع تقنع الآخرين بالتصويت لنا فالمسألة لن تحل باتهام هيئة دولية بفساد الذمم كي نبرئ ساحتنا بمشكلة أكبر ألا وهي الطعن في مؤسسة ذات ثقل دولي ضخم. أو كمثل المسئول عن التعليم الذي يعزى الخلل في العملية التعليمية إلى تفشّي الدروس الخصوصية مع أن جذر الموضوع يتمثل في مسائل أخرى من قبيل ضعف القيادات التعليمية، وعدم وجود استراتيجية واضحة للتعليم، وعدم ملاءمة المقررات لروح العصر، وكذلك عدم مواكبة المباني المدرسية للوظائف المناطة بالمدرسة وعدم إعداد المعلم ابتداء بشكل كفء فضلاً عن ضآلة فرص تأهيله أثناء الخدمة.

 


31- إعادة التأطير: كل طرف يطرح قضيته في إطار معين حتى تكون متماسكة وبذا يتمكن من إقناع الآخر بها، ومن الممكن للفرد حين يواجه هذا الموقف أن يضع القضية أو المسألة بدوره في إطار آخر أي يعيد تأطيرها على نحو يمكنه من فهمها على نحو مختلف قد يكون هو الأكثر ملاءمة، فعلى سبيل المثال حين يشير أحد المتحاجين إلى أن اهتمامنا بجنوب السودان، كما يتمثل في رغبتنا بإنشاء فرع لجامعة الاسكندرية به، مع أن مصر في أمس الحاجة للموارد المالية، يعد استنزافاً لتلك الموارد وبالتالي لا داعي لتلك المبادرة، أي أنه صاغ رفضه للموضوع من الزاوية أو من الإطار الاقتصادي بيد أننا إذا أعدنا تأطير القضية وطرحناها في إطار آخر ألا وهو الأمن القومي المصري فإنه من دواعي هذا الأمن، والذي يعد الأمن المائي أحد دعائمه، أن تحرص مصر على توطيد أواصر صلاتها، وتواجدها، بالجنوب السوداني ومن هنا يكون من الطبيعي الموافقة على هذه المبادأة من منطلق أن المياه أهم من المال. وهناك نموذجاً آخر لهذا الأسلوب في مجال الشعر حيث سئل صلاح عبد الصبور: لماذا اخترت الشعر الحر شكلاً لأشعارك؟ فأجاب: لم يكن اختياراً إلا إذا كان الإنسان يستطيع اختيار قامته أو عرض أكتافه أو لون عينيه. لقد كان نمواً كما ينمو كل شئ في الحياة. وقد بدأت شاعراً كلاسيكياً وأقر هنا أن تجربتي الشعرية ضاقت بالإطار الكلاسيكي منذ أمد بعيد ومن ثم حاولت الخروج منه بطرق أخرى، أي أنه طرح القضية في إطار قوانين الطبيعة وليس في إطار الاختيار الشخصي (النقيب، 1996، 218)، أو كما قال عما الدين أديب: قضية مصر ليست نقص السيولة النقدية، ولكن نقص الحلم والتفاؤل بغد أفضل، أي أنه أعاد تأطير القضية بصورة مغايرة. أو كمن يقابل – بشكل ملحوظ – بين العقل والنقل في الفقه الإسلامي مع أن واهب العقل هو الموحي بالنقل، وأن الرواية لا تغني عن الفقه والدراية (أبو المجد، 2002، 235).

 


32- التفريد: يشير هذا المفهوم إلى أن القاعدة العامة قد لا تصدق بالضرورة على كل الحالات المندرجة تحتها لأن هناك حالات متفردة تتطلب حكماً مختلفاً بعض الشئ مثلما يحدث في القانون حيث يصدر القاضي أحكاماً مختلفة على أشخاص ارتكبوا نفس الجرم ذلك لأن كل حالة لها ظروفها المتفردة، فمن يقتل بريئاً ليسرقه يعدم، ومن يقتل لصاً يريد سرقته دفاعاً عن نفسه قد يأخذ حكماً بإيقاف التنفيذ. وهكذا الأمر في المحاجة حري بنا ألا نتسرع في إصدار أحكام عامة على الأشياء في ضوء القواعد العامة فقط بل يجب علينا أن نراعي الظروف المتفردة للمسألة موضع الحجاج، ومن الأمثلة المعبرة عن هذا الموقف. أننا حين نتحاج مع آخر حول رأيه القائل بضرورة إنهاء تسيير وسائل المواصلات العامة في الحادية عشرة مساءً حيث يكون معظم الناس قد أنهوا أعمالهم لترشيد الاستهلاك، فيمكننا هنا استناداً إلى مبدأ التفريد القول بأن هناك فئات خاصة مثل عمال "الفترات المسائية في المصانع" قد يذهبون إلى أعمالهم في الثانية عشر مساءً، ويعود زملاؤهم في نفس الحقبة في وسائل المواصلات العامة ومن ثم يجب مراعاة ظروفهم المتفردة. وثمة واقعة طريفة في التراث اليوناني تعبر عن هذه الفكرة بطلها سقراط حيث يسأل "لاخيس" قائلاً: ما الشجاعة، عموماً، يا لاخيس؟، فقال: ذلك أمر هين يا سقراط، الرجل الشجاع يلزم مكانه في الحرب ولا يهرب منه. فأجاب سقراط: حسناً. هذا تعريف جيد للشجاعة كما يراها أحد جنود المشاة. ولكن ما الرأي في الفرسان الذين يتحركون دائماً؟ (كوراميس، 1956، 93). ومن المتوقع أن نواجه في حياتنا اليومية بمثل تلك الحالات كأن يسعى أحدهم إلى إقناعننا بأن النساء العاملات لا يؤدين واجباتهن بكفاءة نظراً لانشغالهن لهم بشئون بيوتهن على حساب العمل، وعلينا في مثل هذه الحالة أن نبادره القول، انطلاقاً من مبدأ التفريد، أن هذا الوضع لا ينطبق بالضرورة على كل العاملات فالبعض منهن غير متزوج ابتداءً، أو تزوجن وطلقن، أو ترملن ولم ينجبن وهكذا…… وبالتالي فهذا المبدأ العام لا يصدق عليهن.

 


33- ابحث عن الوقائع التي تناقض النتيجة التي توصّل إليها الطرف الآخر: من المتوقع أن يسعى الطرف الآخر في المحاجة إلى استنتاج أو التوصل إلى نتائج تؤيد حجته كمثل الذي يقول أن التوسع في بناء المدارس في الريف أدى إلى انخفاض كفاءة العملية التعليمية بها نظراً لعدم وجود الأعداد المدربة الكافية من المعلمين بها. هنا يجب أن نتأكد قبل أن نسلم بصحة هذه النتيجة من عدم وجود وقائع تناقضها من قبيل: أن نسبة الطلاب المتفوقين في المدارس الثانوية العامة ضئيلة جداً من أبناء الريف مقارنة بنسبتهم من أبناء الحضر، كذلك أن نسبة الطلاب غير المتفوقين من أبناء الحضر أعلى أو مماثلة لنسبة نظرائهم من أبناء الريف. وحين ننتقل إلى نموذج آخر حيث نقوم بمحاجة من يقول إن الموظف المصري أقل كفاءة من نظرائه في الدول الأخرى والدليل على ذلك هذا المستوى المتدني من الأداء، وهنا يمكننا التوقف عن قبول هذه النتيجة – أنه أقل كفاءة من نظرائه في الدول الأخرى – حتى نتأكد من عدم وجود ما يتعارض معها من قبيل: إن هذا الموظف حين يعار في الخارج يبذل جهداً دءوباً ويكون موضع التقدير من رؤسائه هناك وهو ما يعني أن المناخ العام هو المسئول عن تدنّي الأداء وليس الكفاءة الشخصية، كذلك فإن هناك موظفين عموميين في مصر في هيئات معينة ذات طابع خاص، يؤدون مهامهم بكفاءة عالية، وهو ما ينفي هذا الحكم العام. أي أن المسألة تكمن في عناصر أخرى غير تلك التي ينادي بها المحاج.

 


34- تأكد من عدم تناقض الآخر: إن الحجة كالمبنى يجب أن تقوم على أسس قوية أما إذا شابها تناقض فهي تتهاوى، ومن ثم يجب على القائم بالمحاجة الوقوف على أوجه التناقض المحتملة في حجج الطرف الآخر وادعاءاته، وهي متعددة منها:
- التناقض بين ما يقوله وما يفعله، فحين يدعي قائد بأنه يتعامل بصورة ديموقراطية مع عامليه في حين أن سلوكه يتسم بالاستبداد فهنا تناقض ينفي ما يدعيه.
- التناقض بين ما يتوقعه من نتائج وما ينتج في الواقع عما يدعيه؛ كأن يدعي بأن التوسع في التعليم الجامعي سيزيد من عطالة الشباب في حين أن الواقع يشير إلى أن رفع الكفاءة العقلية والمهارات الفكرية للخريج يمكنه من استثمار طاقاته بصورة أفضل وإيجاد فرصة عمل خاصة به بطرق مبتكرة ومن ثم ينخفض معدل العطالة.
- التناقض بين حججه المستخدمة في المحاجة ذاتها كأن يقول في بداية المحاجة أنه مع الأساليب الحديثة في التربية وينتهي إلى ضرورة استخدام الضرب كوسيلة رادعة للأبناء في حالة عدم استجابتهم لمطالبه.
ويعنّ لنا في هذا المقام أن نسوق تلك المحاجة البارعة للإمام الباقلاني مع أحد علماء المعتزلة في حضرة الخليفة عضد الدولة حيث سأله المعتزلي: هل لله ان يكلف الخلق ما لا يطيقون؟ او ليس له ذلك؟ فقال: إن أردتم بالتكليف القول المجرد "كونوا حجارة أو حديداً" ونحن لا نقدر أن نكون كذلك. وإن كنتم أردتم بالتكلبف الذي نعرفه، وهو ما يصح فعله وتركه، فالكلام متناقض وسؤالك فاسد، فلا تستحق جواباً، لأنك قلت: تكليف، والتكليف اقتضاء فعل ما فيه مشقة على المكلف، وما لا يطاق لا يفعل لا بمشقة ولا بغير مشقة، فسكت السائل (الباقلاني، 1995، 20).

 


35- ابتكر مفاهيم وأساليب حجاجية مستحدثة: إن المفاهيم المستخدمة يدل كل منها على معنى محدد، بيد أن المحاج البارع يمكنه أن يبتكر مفاهيم جديدة بأن يدمج أكثر من مفهوم معاً ليشتق مفهوماً مستحدثاً مما يزيد من قدرته على تفنيد حجج الطرف الآخر أو إقناعه بما يطرحه عليه من حجج، وهناك أمثلة عديدة على ذلك من قبيل ما فعله الآسيويون حين دمجوا بين كلمة المنافسة competition والتعاون cooperation في كلمة جديدة هي التنافسة coopetition (الخضيري، 1999، 6)، وهو ما يعكس رؤيتهم المختلفة عن الغرب الذي يعتقد أن المنافسة يصعب أن تلتقي مع التعاون حيث أنها قد تتحول إلى صراع. أو كالذي يطرح عليه رأيين لا يوافق على أي منهما منفرداً بل يوافق على أجزاء من كل منهما، هنا عليه أن يبتكر مصطلحاً جديداً يعبر عن رأيه، كأن يقول حين يسأل: هل أنت مؤمن بالشورى أم بالديمقراطية؟ فيقول: أنا مؤمن "بالشورقراطية". أو يدخل تعديلاً على المعنى مثلما فعل أرسطو حين قال في كتابه الخطابة: لا يكفي للفرد أن يعرف ما ينبغي أن يقال بل يجب أن يقوله كما ينبغي (شرف، 1980، 158). وحين نتطرق إلى جانب مهم آخر في عملية الإبداع الحجاجي سنجد أن قدرة المحاج على ابتكار أساليب أصيلة تنطوي على المماثلة Analogy، أو الربط بين المتفرقات من بين المهارات الحجاجية المفيدة، ومما يحسن ذكره في هذا المقام تلك المحاجة الفريدة التي أدارها القاضي إياس، وكانت العرب ترمز به للذكاء مثلما حاتم الطائي للكرم، مع أحد الملحدين الذي قال للقاضي إياس: إنكم كمسلمين لا تحرمون شرب عصير العنب، ولكن إذا ترك في الهواء لفترة طويلة وتغيّر طعمه حرمتموه لأنه أصبح خمراً! فقال القاضي إياس: إذا أمسكت بيدي جرعة ماء وألقيت بها على وجهك هل تؤذيك؟ قال: لا، فقال القاضي: وإذا قبضت على حفنة من التبن وألقيت بها على وجهك هل تؤذيك؟ فقال: لا، فقال القاضي: وإذا وإذا ألقيت على وجهك ملئ قبضة يدي من التراب هل تؤذيك؟ فقال: لا. فقال القاضي: وإذا أخذت هذا التبن ومزجته مع ذاك التراب بالماء وتركته في الشمس لفترة من الوقت وألقيته على وجهك فهل يؤذيك؟ هنا سكت الرجل وأدرك فساد مقولته.

 


36- تذكر أن الحدث الواحد قد يكون له أكثر من تفسير: يقول علماء النفس ليست العبرة في الأشياء ولكن في الطريقة التي تدرك بها الأشياء، ومن ثم فإن التفسيرات التي يطرحها الناس للحدث تكون مشبعة بعوامل ذاتية وهو ما يقلل من مصداقيتها بالضرورة، فعلى سبيل المثال حين نطلب من سائق أن يفسر أسباب حوادث السيارات سيسارع بالقول أنها تتمثل في عدم التزام المشاة بقواعد المرور، وسوء حالة الطريق، اما حين نوجه لأحد المشاة نفس السؤال فإنه سيضع في قائمة الأسباب رعونة السائقين، وتهالك السيارات. وكذلك حين نسأل أحد الأشخاص حول أسباب الطلاق سنجد أنه سيجري مسحاً سريعاً على حالات الطلاق المحيطة به، ويذكر أسباب حدوثها بوصفها أسباب حدوث الطلاق في مصر، وهو ما يجب أن ننتبه له أثناء المحاجة لأن تلك التفسيرات الذاتية في حاجة دوماً للمراجعة حتى تصبح أكثر موضوعية. وهناك مقولة شهيرة تعبر عن هذا التصور ذكرها صلاح عبد الصبور: أنا أعتقد أن فكرة كل إنسان عن المرأة تنبع من تقديره للنساء اللاتي يعرفهن (النقيب، 1996، 221). ولا يفوتنا في هذا المقام أيضاً تلك المساجلة التي دارت بين البغدادي والجاحظ حيث قال البغدادي: إن من كتب الجاحظ كتاب في حيل اللصوص، وقد علم بها الفسقة وجوه السرقة، وردّ عليه الجاحظ بقوله: إنه جمع فيه لطائف الخدع وغرائب الحيل (لتبصير العامة بها حتى لا يقعوا ضحية لها) (الجاحظ، 1971، 247). أو ما ذكره مصطفى محمود في ردّه على أحد معارضيه من اليساريين من أنه لا مكان للحتمية (حتمية تقدم المجتمعات من خلال الحل الاشتراكي)، والدليل على ذلك أنه على الرغم من أن الصين خرجت من حضيض الأفيون إلى القنبلة الهيدروجينية بمنهج اشتراكي إلا أن اليابان خرجت أيضاً من دمار هيروشيما إلى ذروة القوة الاقتصادية بمنهج رأسمالي، أي أن هناك أكثر من طريق للخروج من حضيض التخلف (محمود، 1976، 81).

 


37- تأكد من ترتيب الأولويات والأسباب بدقة: من المفروض أن كل حدث مسئول عن حدوثه العديد من الأسباب ولكل منها إسهام نسبي مختلف، أي أنه بالإمكان ترتيبها ترتيباً تنازلياً من أعلاها إلى أدناها إسهاماً، وبناءً عليه يجب على المحاج أن ينتبه إلى مدى التزامه، والتزام الطرف الآخر بتلك القاعدة، فقد يكمن الخلاف بينهما في تلك المسألة فقد يكونا متفقين على الأسباب بشكل عام، ولكن الخلاف الرئيسي بينهما يتمثل في الأهمية النسبية لها فما يعتقده الآخر أنه أكثر الأسباب أهمية لا يعدو من وجهة نظره سوى أقلها اعتباراً. ولعل هذا ما حدى بالجويني إلى القول أن من آداب الجدل: التعلق عند الاستدلال بأقوى ما في المسألة (الجويني، 1979، 131). وهناك مثال واضح يجسد ذلك الموقف حيث قام أحد المتخصصين في علم الاجتماع بتفسير أسباب الحجاب على النحو التالي:
- اعتبار المرأة بعد هزيمة 1967 أنها أصل الفساد وسبب الهزيمة لذا يجب عليها تغطية شعرها.
- خروج الإخوان المسلمين من السجون في السبعينيات.
- هجرة العمالة المصرية لدول الخليج وتأثرهم بالثقافة الوهابية.
- شعور النساء بالخوف من الانحراف بعد غياب أزواجهن فلجأن لارتداء الحجاب.
- تأخر سن الزواج وانتشار العنف الجنسي مما دفع بالنساء للتحجب لحماية أنفسهن.
- خروج المرأة للعمل وارتداء الحجاب حتى لا تثرن القيل والقال من حولهن.
- تأثير الصديقات المحيطات بهن.
- أسباب شخصية من قبل التعرض لأزمات نفسية.
أما التدين فهو ليس السبب الرئيسي (روز اليوسف، 5/12/2003، 64).
نلاحظ هنا أن المتخصص ذكر معظم الأسباب التي قد تكون مسئولة عن الحدث بالفعل بيد أن الخلاف مع معارضيه الذين يتحاج معهم يتمثل في ترتيب أولوية كل منها فما يضعه المتخصص في سفح القائمة قد يكون هو السبب الذي يجب أن يتصدر تلك القائمة في تقديرهم وهكذا..

 


38- إحرص على أن تكون عقليتك تصنيفية وتأكد من دقة تصنيفات الطرف الآخر: إن العقلية المنطقية لا تتعامل مع المفردات أو الأحداث بصورتها الخام، خاصة حين تكون كثيرة، وإنما تسعى لاصطناع فئات تصنيفية لها حتى يسهل تناولها بواسطتها ومن ثم استخلاص الدلالات المطلوبة منها، ومن المفترض أن بعض الأخطاء قد تقع أثناء القيام بتلك العملية من قبيل أن تكون الفئات غير مستوعبة للتفاصيل، أو تكون الفئات متداخلة مع بعضها البعض، أو تكون هناك فئات لا يندرج تحتها مفردات، أو تكون تسمية الفئات غير متطابقة مع محتوياتها من المفردات وهكذا … ومن ثم على المحاج أن يفحص تلك الجوانب ويتحقق من استيفائها حتى يتمكن من فهم المسألة والتعامل معها بصورة فعالة. وهناك أمثلة متعددة تعبر عن تلك الحالات منها: حين يصنف أحد المراهقين المحيطين به من الزملاء في ثلاث فئات إما يحبونه أو يكرهونه أو لا يهتمون به فعلينا أن نلفت نظره إلى احتمال وجود فئات أخرى مثل من يتجنبونه بسبب سلوكه غير الملائم معهم أو من يحترمونه ولكن ليس لدرجة أن يحبونه، أو من يعتبرونه مجرد زميل ليس أكثر ولا أقل وهكذا … وكذلك حين يقوم أحد المتحاجين بتصنيف شخصية المصريين بأنها إما مسالمة أو عدوانية فعلينا أن نوضح له أن هناك فئات أخرى من الشخصية فهناك المنسحب، والمتفاني، والساخر، والعملي. ومن زاوية أخرى فقد تكون العناصر المصنفة تدخل في فئة أخرى غير التي يقترحها الآخر، فعلى سبيل المثال حين يشير إلى أن العزوف عن المشاركة في الانتخابات تدخل في إطار سمة السلبية بوصفها إحدى سمات الشخصية المصرية فعلينا أن نوضح أنها قد تنتمي إلى فئة أساليب الاحتجاج أو الاعتراض السلمي على أوضاع غير مقبولة أو عدم الرضا عن مستوى المرشحين أو طرق ترشيحهم وهكذا … .

 


39- إبراز البديل الأسوأ: تتمثل الفكرة الرئيسية في هذا الأسلوب في قيام الفرد المحاج، كوسيلة لإقناع الطرف الآخر، باستعراض الاحتمالات السلبية المترتبة على الموافقة على رأيه لحثه على التخلي عن هذا الرأي، فعلى سبيل المثال حين يطالب أحد الأشخاص بإلغاء مجانية التعليم الأساسي لرفع كفاءة المتعلمين فعلينا أن نذكره بأن وجود متعلم أقل كفاءة أفضل من وجود أمي جاهل، لأن السواد الأعظم من المصريين الفقراء، والريفيين خاصة، لا يملكون نفقات التعليم الخاص. وحين يطالب أحدهم بمنع الباعة الجائلين من البيع في الشوارع العامة بدون ترخيص نبادره بالقول بأن لفظ بائع جائل أفضل بالتأكيد من لفظ مجرم، فهذا هو البديل المتاح أمام غالبيتهم حينئذ. أو مثلما يدعو البعض لمنع الشباب من ممارسة الرياضة في الشوارع بالأحياء الشعبية حتى لا يسببون ازعاجاً للسكان فيسرع البعض بالقول: الإزعاج أرحم من الإدمان ذلك أن هؤلاء الشباب حين لا يجدون مكاناً يتريضون فيه سيذهبون إلى أماكن أخرى بعيدة عن العيون قد تكون مشبوهة وتؤدي إلى تعرضهم ودفعهم لممارسات غير سوية كالإدمان.

 


40- استخدم المحاجة بحكمة: إن المحاجة وسيلة من الوسائل الآمنة لحل الصراعات وحسم الخلافات بين الأشخاص والأطراف المختلفة حول مسائل معينة، أي أنه ثمة أساليب أخرى، وفقاً لهذا المنظور، لحسم تلك الخلافات، قد تتمثل في التعاون، أو الإيثار، أو التجنب، أو تدخل طرف ثالث، وهكذا … ومن ثم يجب أن يتضح بجلاء في ذهن المحاج أن تلك الوسيلة – المحاجة – يجب ألا تستخدم إلا بقدر، وحين يتوقع أنها ستكون الأكثر فعالية وأن عائدها الإيجابي أكبر من السلبي، وعليه أن يستخدمها بقدر، وأن يوطن نفسه على أن يتوقف عن استخدامها حين يتحقق هدفه، فالإفراط فيها كمن يفرط في استخدام الملح في الطعام. ومن هنا فإنه من الضروري أن نقتصد في اللجوء إلى المحاجة تبعاً لاحتياجات ومتطلبات الموقف، لا اكثر ولا أقل، فالإكثار منها قد يجعل المحيطين بك يتبنون تصوراً سلبياً حولك، فضلاً عن أن إصرارك عليها قد يفقدك أصدقائك، وبطبيعة الحال فإن خسارة محاجة أفضل من خسارة صديق. يضاف إلى ذلك أن المحاجة لا تستخدم إلا مع من يلتزم بآدابها وقواعدها ويكون لديه القدرة على الإقرار بعدم صحة موقفه أوصحة موقفك إذا تبيّن له بالدليل والبرهان ذلك فالمسألة ليست حلبة صراع ولكنها ساحة حوار.

 

تابع قراءة هذا الفصل (ب ـ البرامج النظامية لتنمية مهارات المحاجة) بالضغط على الرابط بأسفل الصفحة