5-3 التوجيهات العملية والبرامج العلمية لتنمية المحاجة
35- ابتكر مفاهيم وأساليب حجاجية مستحدثة: إن المفاهيم المستخدمة يدل كل منها على معنى محدد، بيد أن المحاج البارع يمكنه أن يبتكر مفاهيم جديدة بأن يدمج أكثر من مفهوم معاً ليشتق مفهوماً مستحدثاً مما يزيد من قدرته على تفنيد حجج الطرف الآخر أو إقناعه بما يطرحه عليه من حجج، وهناك أمثلة عديدة على ذلك من قبيل ما فعله الآسيويون حين دمجوا بين كلمة المنافسة competition والتعاون cooperation في كلمة جديدة هي التنافسة coopetition (الخضيري، 1999، 6)، وهو ما يعكس رؤيتهم المختلفة عن الغرب الذي يعتقد أن المنافسة يصعب أن تلتقي مع التعاون حيث أنها قد تتحول إلى صراع. أو كالذي يطرح عليه رأيين لا يوافق على أي منهما منفرداً بل يوافق على أجزاء من كل منهما، هنا عليه أن يبتكر مصطلحاً جديداً يعبر عن رأيه، كأن يقول حين يسأل: هل أنت مؤمن بالشورى أم بالديمقراطية؟ فيقول: أنا مؤمن "بالشورقراطية". أو يدخل تعديلاً على المعنى مثلما فعل أرسطو حين قال في كتابه الخطابة: لا يكفي للفرد أن يعرف ما ينبغي أن يقال بل يجب أن يقوله كما ينبغي (شرف، 1980، 158). وحين نتطرق إلى جانب مهم آخر في عملية الإبداع الحجاجي سنجد أن قدرة المحاج على ابتكار أساليب أصيلة تنطوي على المماثلة Analogy، أو الربط بين المتفرقات من بين المهارات الحجاجية المفيدة، ومما يحسن ذكره في هذا المقام تلك المحاجة الفريدة التي أدارها القاضي إياس، وكانت العرب ترمز به للذكاء مثلما حاتم الطائي للكرم، مع أحد الملحدين الذي قال للقاضي إياس: إنكم كمسلمين لا تحرمون شرب عصير العنب، ولكن إذا ترك في الهواء لفترة طويلة وتغيّر طعمه حرمتموه لأنه أصبح خمراً! فقال القاضي إياس: إذا أمسكت بيدي جرعة ماء وألقيت بها على وجهك هل تؤذيك؟ قال: لا، فقال القاضي: وإذا قبضت على حفنة من التبن وألقيت بها على وجهك هل تؤذيك؟ فقال: لا، فقال القاضي: وإذا وإذا ألقيت على وجهك ملئ قبضة يدي من التراب هل تؤذيك؟ فقال: لا. فقال القاضي: وإذا أخذت هذا التبن ومزجته مع ذاك التراب بالماء وتركته في الشمس لفترة من الوقت وألقيته على وجهك فهل يؤذيك؟ هنا سكت الرجل وأدرك فساد مقولته.
36- تذكر أن الحدث الواحد قد يكون له أكثر من تفسير: يقول علماء النفس ليست العبرة في الأشياء ولكن في الطريقة التي تدرك بها الأشياء، ومن ثم فإن التفسيرات التي يطرحها الناس للحدث تكون مشبعة بعوامل ذاتية وهو ما يقلل من مصداقيتها بالضرورة، فعلى سبيل المثال حين نطلب من سائق أن يفسر أسباب حوادث السيارات سيسارع بالقول أنها تتمثل في عدم التزام المشاة بقواعد المرور، وسوء حالة الطريق، اما حين نوجه لأحد المشاة نفس السؤال فإنه سيضع في قائمة الأسباب رعونة السائقين، وتهالك السيارات. وكذلك حين نسأل أحد الأشخاص حول أسباب الطلاق سنجد أنه سيجري مسحاً سريعاً على حالات الطلاق المحيطة به، ويذكر أسباب حدوثها بوصفها أسباب حدوث الطلاق في مصر، وهو ما يجب أن ننتبه له أثناء المحاجة لأن تلك التفسيرات الذاتية في حاجة دوماً للمراجعة حتى تصبح أكثر موضوعية. وهناك مقولة شهيرة تعبر عن هذا التصور ذكرها صلاح عبد الصبور: أنا أعتقد أن فكرة كل إنسان عن المرأة تنبع من تقديره للنساء اللاتي يعرفهن (النقيب، 1996، 221). ولا يفوتنا في هذا المقام أيضاً تلك المساجلة التي دارت بين البغدادي والجاحظ حيث قال البغدادي: إن من كتب الجاحظ كتاب في حيل اللصوص، وقد علم بها الفسقة وجوه السرقة، وردّ عليه الجاحظ بقوله: إنه جمع فيه لطائف الخدع وغرائب الحيل (لتبصير العامة بها حتى لا يقعوا ضحية لها) (الجاحظ، 1971، 247). أو ما ذكره مصطفى محمود في ردّه على أحد معارضيه من اليساريين من أنه لا مكان للحتمية (حتمية تقدم المجتمعات من خلال الحل الاشتراكي)، والدليل على ذلك أنه على الرغم من أن الصين خرجت من حضيض الأفيون إلى القنبلة الهيدروجينية بمنهج اشتراكي إلا أن اليابان خرجت أيضاً من دمار هيروشيما إلى ذروة القوة الاقتصادية بمنهج رأسمالي، أي أن هناك أكثر من طريق للخروج من حضيض التخلف (محمود، 1976، 81).